الأربعاء  03 أيلول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مفهوم "أرض إسرائيل الكبرى" ومشاريع سموتريتش الاستيطانية في الضفة

2025-09-03 09:11:03 AM
مفهوم
أرشيفية

الحدث - محمد بدر 

العدد 185 من صحيفة الحدث الفلسطيني

الإعلانات والمبادرات الاستيطانية الأخيرة لوزير المالية في حكومة الاحتلال بتسلئيل سموتريتش في مجال الاستيطان في الضفة الغربية؛ تجسّد تحقيق رؤية التيار المشيحاني-الديني في إسرائيل. سموتريتش، الذي ينتمي إلى قيادة حزب "الصهيونية الدينية"، يقود خطوات تهدف إلى تعميق قبضة إسرائيل في الضفة الغربية ومنع إقامة دولة فلسطينية. فعلى سبيل المثال، في نيسان/أبريل 2024 أمر سموتريتش بربط 68 بؤرة استيطانية غير مرخّصة بالبنى التحتية وتزويدها بالخدمات كما لو كانت مستوطنات قانونية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. هذه الخطوة – التي تمنح البؤر مكانة مشابهة للمستوطنات الإسرائيلية المعترف بها وتجعل إخلاءها أصعب – نُفذت بموجب الاتفاق الائتلافي مع حزبه.

بالإضافة إلى ذلك، في تموز/يوليو 2023 صادقت الكنيست بأغلبية كبيرة على اقتراح قانون لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وفي أيار/مايو من العام نفسه صادق الكابينيت على إقامة 22 مستوطنة جديدة، من بينها تجديد الاستيطان في حومش وصانور في شمال الضفة الغربية، كل ذلك في أعقاب إلغاء قانون "فك الارتباط" في تلك المناطق. وبالتوازي، يروّج سموتريتش لخطط بناء واسعة في مناطق حساسة استراتيجيًا. ففي آب/أغسطس 2025 أعلن عن خطة لربط مستوطنة "معاليه أدوميم" بالقدس من خلال بناء 3400 وحدة استيطانية، في خطوة قال إنها "ستدفن نهائيًا فكرة الدولة الفلسطينية"، وقد أقرت حكومة الاحتلال الخطة. وبحسب أقواله، ستستثمر إسرائيل موارد لمضاعفة حجم معاليه أدوميم ولاستيطان نحو مليون يهودي إضافي في الضفة الغربية، حيث إن "كل بيت إسرائيلي يُبنى في الضفة الغربية هو إعلان سيادة، وكل حيّ هو مسمار في نعش" طموحات الدولة الفلسطينية. وأكد سموتريتش أن هذه الخطوات منسقة بالكامل مع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ومع الإدارة الأمريكية، وبذلك بعث برسالة ثقة بأن المشروع الاستيطاني يحظى بشرعية دولية.

هذه الخطوات – تسوية أوضاع البؤر، وبناء آلاف الوحدات الاستيطانية، ونقل صلاحيات الإدارة المدنية إلى المستوى السياسي – ليست أحداثًا منفصلة، بل تعكس رؤية أيديولوجية راسخة. هذه الرؤية، التي تُسمّى "مشيحانية" في الصهيونية الدينية، ترى في إسرائيل وفي السيطرة على "أرض إسرائيل الكاملة" جزءًا من مسار الخلاص الإلهي. وبكلمات أخرى، فإن المشروع الاستيطاني في نظر هذا التيار ليس مجرد سياسة أمنية، بل رسالة دينية-تاريخية. وما يلي سيستعرض بعمق نظرة التيار المشيحاني-الديني في إسرائيل تجاه الضفة الغربية، تطوره التاريخي والفكري، الشخصيات المفتاحية التي صاغته، ودوره داخل الصهيونية الدينية وفي الساحة السياسية. كما سنفحص كيف أثرت الأيديولوجيا المشيحانية على سياسة الاستيطان، وعلى النظام القانوني والقضائي، وعلى المجتمع الإسرائيلي ككل.

خلفية فكرية وتاريخية

الفكرة المشيحانية ليست ظاهرة جديدة في اليهودية، غير أن ظهورها ضمن الصهيونية الدينية منحها طابعًا خاصًا. فمنذ بدايات المشروع الصهيوني سعى مفكرون متدينون إلى إيجاد معنى لاهوتي في الاستيطان. وكان الحاخام أبراهام يتسحاق هكوهن كوك، أحد أبرزهم، قد بلور في مطلع القرن العشرين تصورًا يرى في الصهيونية العلمانية أداة بيد العناية الإلهية لدفع عملية الخلاص. وعلى خلاف الحاخامات الذين عارضوا الصهيونية العلمانية، أكد كوك الأب أن المشروع القومي مقدّس في جوهره، حتى لو قاده يهود غير ملتزمين بالوصايا، إذ إن "الشرارة الإلهية" تعمل من خلالهم لتحقيق جمع اليهود في فلسطين. وبهذا وضع كوك الأساس اللاهوتي لفكرة أن دولة إسرائيل هي بداية الخلاص الإلهي.

أما ابنه وتلميذه البارز، الحاخام تسفي يهودا هكوهن كوك، فقد حمل فكر والده وعمّقه بعد قيام دولة الاحتلال، وبصورة أوضح بعد حرب 1967. فقد اعتُبر انتصار إسرائيل في الحرب وسيطرتها على القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان، معجزة مدهشة في نظره. ورأى في ذلك برهانًا لمسار الخلاص، وعبّر عن ذلك بلغته التصويرية: "يتحدثون عن بداية الخلاص، لكننا بالفعل في وسط الخلاص. نحن في الصالون ولسنا في الرواق". أي أنه بحسب كوك الابن، مع استيطان اليهود في كل فلسطين، فإن الخلاص قد تقدم خطوة جوهرية لا رجعة عنها. وكمدير لمدرسة "مركز هراف"، ربّى جيلاً كاملاً من التلاميذ على أن قيام الدولة وتوسعها في الضفة الغربية جزء من برنامج إلهي. وفي "يوم القدس" عام 1967، أعلن أمام طلابه بحماس ديني عن معجزة عودة مواقع السلف – الخليل، نابلس، بيت إيل وغيرها – إلى حضن الأمة، وطالب بشكر الله على تحريرها. ويروي طلابه أنه في عام 1967، قبل اندلاع الحرب بأسابيع قليلة، أبدى أسفًا لأن "إعلان الاستقلال" وخطة التقسيم تركا أجزاء من فلسطين (مثل الضفة الغربية) خارج سيادة الدولة؛ لكن بعد أسابيع قليلة قال "أعاد لنا الله أراضي آبائنا" – وبالتالي لا يجوز التنازل عنها أبدًا.

لقد رسم تسفي يهودا كوك وتلاميذه خطًا أيديولوجيًا واضحًا: تحريم مطلق لأي تنازل عن أي منطقة في فلسطين، انطلاقًا من الإيمان بأن التنازل يعطل الخلاص ويضر بمسار العناية. واعتمدوا الشعار "أرض إسرائيل الكاملة" ومنحوه دلالة دينية عميقة. فمناطق الضفة الغربية وغزة عُرفت ليس فقط كرصيد سياسي-أمني بل كـ"ميراث الآباء" وكجزء من رسالة الشعب الروحية. وفق هذا التصور، لم ينتهِ دور الصهيونية عند إقامة دولة الاحتلال بحدودها عام 1948، بل الواجب هو الاستمرار في توسيع السيادة اليهودية على كل أجزاء الأرض الموعودة في التوراة – وهذه مهمة جيل الخلاص.

ومن المهم التأكيد أن مصطلح "مشيحانية" في هذا السياق لا يعني الإيمان بمجيء فوري لشخصية المسيح صاحب المعجزات، بل مشيحانية تاريخية-مسارية – أي الإيمان بأن الخلاص يتحقق من خلال أحداث واقعية -عسكرية وسياسية-  وأن الدولة اليهودية السيادية هي أداة مقدسة في تجسيد رؤية الأنبياء. وبهذا يختلف التيار المشيحاني-الصهيوني عن المواقف الحريدية الكلاسيكية التي رفضت النشاط القومي حتى مجيء المسيح: إذ إن المشيحانيين في الصهيونية الدينية آمنوا بأن "الخلاص من الأسفل" – أي المبادرة البشرية – تقرّب الخلاص. هذه النظرة أثارت الحماسة لدى كثيرين في صفوف الجمهور الديني القومي بعد 1967، إذ رأوا في النصر على الدول العربية وفي التوسع الدراماتيكي لإسرائيل إشارة سماوية.

شخصيات مفتاح وحركات مشيحانية تاريخية

 تبلور التيار المشيحاني الديني حول شخصيات وحركات جذبت الجمهور الإسرائيلي. وقد ذُكر أعلاه الحاخام أبراهام يتسحاق كوك وابنه الحاخام تسفي يهودا كوك كآباء فكريين. غير أن أفكارهما كان لا بد من ترجمتها إلى أفعال على الأرض – وهنا برز تلامذتهما. من أبرزهم الحاخام موشيه ليفينغر وحَنان بورات، اللذان جسّدا هذا الفكر عمليًا.

الحاخام موشيه ليفينغر، أحد تلاميذ مدرسة "مركز هراف"، قاد مباشرة بعد حرب 1967 الاستيطان اليهودي في الخليل. ففي عيد الفصح عام 1968 جمع ليفينغر مجموعة من العائلات المتدينة للإقامة في فندق "بارك" بالخليل – خطوة أدت، رغم الاعتراضات، إلى إقامة المستوطنة اليهودية في "كريات أربع". بالنسبة لليفينغر ورفاقه، كانت الحركة الاستيطانية في الخليل – مدينة الآباء كما يسميها – تصحيحًا تاريخيًا وخطوة أخرى في مسار الخلاص، وذلك رغم حساسيتها السياسية والأمنية. بهذا الفعل أثبت المستوطنون الأوائل استعدادهم للتصرف أولاً على الأرض ودفع حكومة الاحتلال لاحقًا إلى المصادقة على ما فرضوه بالفعل، وفقًا للمقولة المنسوبة إليهم: "الاستيطان يرسم الحدود".

وبالمثل، كان حَنان بورات – صاحب شخصية كاريزمية وقدرة تنظيمية – قد قاد مستوطنين متدينين في إقامة كتلة استيطانية في "غوش عتصيون" عام 1967، ثم أصبح من أبرز المبادرين إلى تأسيس حركة "غوش إيمونيم". تأسست الحركة رسميًا عام 1974 على يد مجموعة من تلاميذ الحاخام تسفي يهودا كوك، وأصبحت حركة ميدانية نشطة هدفها الاستيطان في كل منطقة يمكن الاستيطان فيها بالضفة الغربية. من بين مؤسسيها وقادتها يمكن عدّ حنان بورات نفسه، بنيامين (بِني) كتسوفير، مناحِم فليكس، دانييلا فايس، أوري أليتسور وآخرين – جميعهم كانوا مشبعين بشعور رسالة دينية. نشأت الحركة من رؤية دينية بالأساس، لكنها في بدايتها جذبت أيضًا أوساطًا علمانية أيّدت ضمّ الأراضي (مثل أعضاء "الحركة من أجل أرض إسرائيل الكاملة").

نظمت غوش إيمونيم سلسلة من عمليات الاستيطان الجريئة في أواخر السبعينيات، وأشهرها محاولة الاستيطان في سبسطية عام 1975. وعلى الرغم من الخلاف مع حكومة الاحتلال آنذاك، تم التوصل إلى تسوية سمحت للمستوطنين بالإقامة في معسكر "كدوم"  الذي أصبح نواة مستوطنة "كدوميم". نجاح المستوطنين في ليّ ذراع الحكومة جعلهم قوة مؤثرة وأثبت لكثيرين في الوسط الديني أن يد العناية معهم.

تحت القيادة الروحية لتسفي يهودا كوك والقيادة الميدانية لغوش إيمونيم، ترسخ التيار المشيحاني كتيار مركزي في الصهيونية الدينية. فقد نشر حاخامات "مركز هراف" مثل الحاخام شلومو أفينير، الحاخام حاييم دروكمان، الحاخام يهودا حزّاني وغيرهم – هذه الرسالة بين طلابهم العديدين، حيث التحق قسم منهم بتأسيس نوى استيطانية في الضفة. كذلك كان من الشخصيات الحاخامية المرتبطة بالتيار المشيحاني الحاخام دوف ليئور (حاخام كريات أربع) والحاخام إليعازر فالدمان (رئيس مدرسة "نير" في كريات أربع)، اللذان شجّعا جمهورهما على التمسك بكل أنحاء البلاد. ما جمع هؤلاء هو: الحاخامات وفّروا الأساس اللاهوتي، بينما دفع النشطاء في الميدان حدود الاستيطان شمالاً وجنوبًا وشرقًا.

ومن الجدير بالذكر أنه بجانب التيار المركزي لغوش إيمونيم، نشأت أيضًا مجموعات أكثر تطرفًا. من بينها حركة الحاخام مئير كهانا، الذي جاء من خلفية حريدية-أمريكية، وكانت أيديولوجيته مختلفة جزئيًا (تركّزت على نقاء الشعب ومحاربة العرب أكثر من التصوف الخلاصي). ومع أنه يصعب تعريفه كـ"صهيوني ديني" تقليدي، فقد تأثر هو أيضًا بالروح المشيحانية العامة وطالب بضم كامل وطرد العرب كخطوة نحو الخلاص. وفي أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات وجدت أفكاره صدى عند بعض الشباب؛ ومع أن حركته "كاخ" مُنعت من الكنيست عام 1988 بسبب عنصريتها، فإن تأثيرها الفكري انتقل إلى تيارات سياسية أخرى لاحقًا (ويظهر ذلك اليوم في شراكة حزب "عوتسما يهوديت" بزعامة إيتمار بن غفير – التلميذ الروحي لِكهانا – مع حزب "الصهيونية الدينية" لسموتريتش).

إلى جانب كهانا، ظهرت أيضًا مجموعات سرية على هامش المعسكر المشيحاني: "التنظيم اليهودي السري" الذي عمل في أوائل الثمانينيات (ونفّذ هجمات ضد رؤساء بلديات فلسطينيين وخطّط لتفجير مساجد الحرم القدسي)، وكذلك في التسعينيات أفراد نفذوا مجازر مثل باروخ غولدشتاين (منفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل، 1994) ويغال عمير (قاتل رئيس الحكومة يتسحاق رابين، 1995). ورغم أن قيادة الصهيونية الدينية المؤسسية أدانت هذه الأفعال، فإنها نبتت من أوساط كانت مشبعة بإيمان "الغيرة الدينية" من أجل "أرض إسرائيل"، ورأت في التنازل عن الأراضي خطرًا وجوديًا روحيًا، وبررت من ثمّ أعمالًا متطرفة. وقد أبرزت هذه الأحداث الصادمة التوتر الداخلي داخل التيار المشيحاني: فمعظمه تبنّى تحقيق الرؤية الخلاصية عبر الاستيطان والنشاط السياسي والاجتماعي ضمن الدولة، لكن أقلية راديكالية تأثرت بأفكار مشيحانية نحو العصيان وأحيانًا نحو العنف.

من الهامش إلى المركز: تأثير التيار المشيحاني على السياسة الإسرائيلية

  في السنوات الأولى لإقامة دولة الاحتلال، انشغلت الأحزاب الدينية-القومية (مثل "المفدال" – الحزب الديني القومي) أساسًا في قضايا الدين والدولة والاندماج في المجتمع، ولم تتبنَّ خطًا مشيحانيًا بارزًا. لكن بعد 1967 وبالأخص في السبعينيات، بدأ التيار المشيحاني يتسرب إلى السياسة المؤسسية. داخل المفدال نشأت مجموعة من الشباب الأيديولوجيين (يُسمَّون أحيانًا "الكتلة الشابة") الذين تأثروا بفكر الحاخام كوك. كثيرون منهم كانوا مقربين من "غوش إيمونيم" ودعموا سياسة الضم والاستيطان المكثف.

بلغت هذه العملية نقطة تحوّل مع "الانقلاب" السياسي عام 1977، حين صعد حزب الليكود بزعامة مناحيم بيغن إلى الحكم. بيغن والليكود كانوا أيديولوجيًا قريبين من فكرة "أرض إسرائيل الكاملة"، وأقاموا ائتلافًا مع المفدال. في هذه الفترة حصل قفزة كبيرة في بناء المستوطنات في الضفة الغربية: حكومة بيغن-المفدال شجعت وصادقت على عشرات المستوطنات الجديدة، من بينها بفضل إلحاح ودفع نشطاء غوش إيمونيم الذين وجدوا آذانًا صاغية. مع دخول الثمانينيات، أصبح التيار المشيحاني مهيمنًا داخل الصهيونية الدينية. زعماء سياسيون مثل الحاخام حاييم دروكمان، وزفولون هامر، ويهودا بن مئير وآخرون – اضطروا إلى أخذ صوت الأيديولوجيا المشيحانية بالحسبان. بعضهم تبنّاها فعليًا. وهكذا فإن المفدال في التسعينيات والألفين اتجه أكثر نحو اليمين في مسألة الأراضي، ووقف بشدة ضد اتفاقيات أوسلو وضد أي انسحابات.

وفي التسعينيات قادت الانقسامات داخل المفدال إلى تأسيس أطر سياسية مستقلة لجمهور "الحردلي" (الحريدلي – أي المتدينين القوميين ذوي النظرة الحريدية-المشيحانية). مثلًا، حزب "تَحيياه" أُقيم بعد اتفاقيات كامب ديفيد (1978) احتجاجًا على إعادة سيناء، ولاحقًا ظهرت كتلة "هتيكفاه" ثم "الاتحاد القومي"، التي استوعبت شخصيات مثل حنان بورات، بني ألون وآخرين انشقوا عن المفدال بسبب مواقف أكثر تشددًا بخصوص "أرض إسرائيل". وبالتوازي، أسّس تلاميذ الحاخام كوك "الحردليين" مؤسسات تعليمية ومدارسهم الدينية (مثل "يشيفوت هكاڤ"، بقيادة الحاخام تسفي تاو وآخرين) التي أكدت مركزية "أرض إسرائيل" في الهوية الدينية.

تطور هذا الوضع بلغ ذروته في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، حين لم يعد التيار المشيحاني-القومي هامشيًا بل صار مركز ثقل في السياسة الإسرائيلية. وكما وصف الدكتور شاؤول أريئيلي، خلال العقد الأخير نما المعسكر القومي-المشيحاني في الصهيونية الدينية من الهامش إلى قلب الحكم. حزب "البيت اليهودي" (الامتداد المتأخر للمفدال) بقيادة نفتالي بينيت وأييلت شاكيد (2013–2018) جمع بالفعل متدينين قوميين حديثين، لكنه أيضًا تمسّك بموقف صارم ضد الدولة الفلسطينية.

وفي النهاية، عام 2021 توحدت الفصائل الحردلية والكاخانية في قائمة واحدة – "الصهيونية الدينية" برئاسة بتسلئيل سموتريتش، مع "عوتسما يهوديت" برئاسة إيتمار بن غفير، و"نوعَم" برئاسة آفي معوز – وحقق هذا التحالف نجاحًا انتخابيًا. في انتخابات 2022 أصبحت قائمة "الصهيونية الدينية–عوتسما يهوديت" ثالث أكبر كتلة في الكنيست، وانضمت إلى ائتلاف بقيادة بنيامين نتنياهو من موقع قوة غير مسبوقة. تولى سموتريتش وزارة المالية ووزارة في وزارة الجيش مع صلاحيات خاصة على الضفة الغربية، بينما أصبح بن غفير وزيرًا للأمن القومي. بهذا الشكل، أمسك التيار المشيحاني ومؤيدوه بمفاتيح السلطة في إسرائيل – وهي ظاهرة كان من الصعب تصورها في أجيال سابقة. وقد وصف بعض المعلقين الوضع بأنه "حرب بين المجتمع الصهيوني والمجتمع المشيحاني في إسرائيل" – أي صراع أيديولوجي داخلي حول هوية الدولة. والحقيقة أن قادة الأحزاب المشيحانية-الحردلية بوصولهم إلى مناصب وزارية عليا مكّنتهم من التأثير على سياسة الاستيطان فعليًا، وكذلك على خطوات دستورية بعيدة المدى مثل تغيير النظام القضائي.

ومن المهم القول إن التيار المشيحاني لم يعمل وحده في السياسة، بل أثّر أيضًا على أحزاب يمينية علمانية. فحزب الليكود، مثلًا، تحت قيادة نتنياهو، تبنى في العقد الأخير مواقف أكثر تصلبًا في مسألة الأراضي بضغط من شركائه من اليمين الديني. ومنذ 2009، حيث كان نتنياهو في الحكم، تجمد المسار السياسي، ترافق ذلك مع توسع مستمر في الاستيطان – وهو اتجاه خدم أهداف التيار المشيحاني. وبالمثل، وجد سياسيون يمينيون علمانيون يؤيدون فرض "السيادة" (الضم) لغة مشتركة مع المتدينين المشيحانيين، حتى وإن اختلفت الدوافع الأيديولوجية (قومية علمانية مقابل إيمان ديني). وبهذا تكوّن تحالف سياسي واسع هدفه المعلن: منع أي انسحاب جديد من أراضي الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية عليها.

مشروع الاستيطان كتجسيد للرؤية المشيحانية

  إحدى أبرز تجليات الأيديولوجيا المشيحانية – وربما الأوضح بينها – هو مشروع الاستيطان في المناطق بعد 1967. فبالنسبة للتيار المشيحاني، فإن الاستيطان اليهودي في كل أنحاء الضفة الغربية ليس مجرد وسيلة أمنية أو تكتيك سياسي، بل هو وصية دينية وحجر زاوية في عملية الخلاص. وبناءً على ذلك، دَفَع قادة التيار على مدى العقود الأخيرة نحو إقامة وتوسيع متواصل لمستوطنات إسرائيلية في الضفة، من دون الاكتراث بالمعارضة الفلسطينية أو بالضغط الدولي.

في السبعينيات والثمانينيات تركز المشروع الاستيطاني بالأساس على إقامة مستوطنات راسخة أي مدن وبلدات ونوى استيطان حصلت في النهاية على مصادقة حكومية. لكن منذ التسعينيات، وبالأخص بعد توقيع أوسلو (1993)، اعتمدت الأوساط المشيحانية تكتيكًا جديدًا: إقامة بؤر استيطانية غير مرخّصة على تلال في أنحاء الضفة الغربية. هذه البؤر – أحيانًا كرفان واحد أو عدة مبانٍ مؤقتة تُقام فجأة – هدفت إلى الاستيلاء على الأرض وخلق وقائع ميدانية قبل فرض قيود. الفرضية كانت أن حكومات الاحتلال، حتى إن عارضت رسميًا، ستقوم في النهاية بشرعنة كثير من هذه البؤر تحت ضغط سياسي وجماهيري من اليمين. وبالفعل، نجحت هذه الإستراتيجية إلى حد بعيد: عشرات البؤر الاستيطانية التي أُنشئت بشكل عشوائي في التسعينيات والألفين حازت لاحقًا على مكانة قانونية أو على الأقل رُبطت بالبنى التحتية. من الأمثلة على ذلك: "رحاليم"، "بروخين"، "متسبيه داني"، وغيرها التي تم تسويتها في العقدين الأخيرين.

ومع دخول حزب "الصهيونية الدينية" إلى الحكم في 2023، حظي مشروع البؤر بدفعة مسرّعة غير مسبوقة. وكما ذُكر في المقدمة، استغل الوزير في وزارة الجيش بتسلئيل سموتريتش صلاحياته الجديدة لإزالة عقبات بيروقراطية أعاقت لسنوات البناء في المستوطنات. ففي حزيران/يونيو 2023 أُبطل الشرط بضرورة مصادقة الحكومة الكاملة على كل خطة بناء في المستوطنات، ونُقلت صلاحية إقرار المخططات إلى "مديرية الاستيطان" برئاسة سموتريتش. هذا التغيير، إلى جانب تعيين مستشار قانوني مُقرّب سياسيًا لشؤون الضفة الغربية، خلق آلية تتيح تسريع البناء بلا عرقلة قضائية – وهو ما وصفه ناشطون استيطانيون بقولهم: "أخيرًا أصبحت لدينا حكومة بأيدينا على المقود".

وقد ظهرت النتائج فورًا: ففي عام 2023 تمت المصادقة على عدد قياسي من وحدات الاستيطان الجديدة خلف الخط الأخضر. وبحسب تقرير من منظمات حقوقية، فقد تم في الربع الأول من 2024 تحطيم رقم قياسي في إعلان "أراضي دولة" في الضفة – نحو 11,000 دونم أُعلن عنها (خطوة تتيح إقامة مستوطنات عليها مستقبلًا) – وهو أكبر حجم منذ فترة أوسلو. كما بدأت الحكومة فعليًا بتسوية أوضاع البؤر: ففي شباط/فبراير 2023 أُقرت شرعنة 10 بؤر (وفق الاتفاق الائتلافي)، وفي ربيع 2024 توسع القرار ليشمل عشرات أخرى. وقد وجّه سموتريتش مكاتبه الوزارية لتخصيص ميزانيات لـ68 بؤرة استيطانية غير قانونية وتزويدها بالخدمات كبقية المستوطنات، وبذلك منحها مكانة فعلية كمستوطنات إسرائيلية ومنع إمكانية إخلائها. شمل ذلك التعليم، والطرق، والربط بالكهرباء والمياه. هذه الخطوة جرى تنفيذها "تحت الرادار"، من بينها خلال سيف القدس 2021 وحرب الإبادة التي بدأت أكتوبر 2023، حيث كان الرأي العام منشغلًا بالمعارك. ويرى البعض في ذلك تجسيدًا فعليًا لـ"الضم الزاحف": أي بدل التصريحات الدرامية، خلق واقع لا رجعة فيه ميدانيًا، بحيث يُمحى "الخط الأخضر" وتُدمج الضفة الغربية ضمن النسيج المدني لإسرائيل.

وتشير المعطيات إلى أن سياسة الحكومة الحالية – التي تعكس رؤية التيار المشيحاني – هي التوسع الديمغرافي الدراماتيكي للمستوطنين يهود في الضفة. والهدف المعلن، كما أُشير، هو مضاعفة عدد المستوطنين في غضون سنوات قليلة. حاليًا (2025) يعيش في الضفة الغربية (من دون القدس الشرقية) أكثر من 500 ألف مستوطن؛ ووفق أقوال زعماء اليمين الإسرائيلي، ينبغي أن يصل العدد إلى مليون وأكثر. وقد كتب صحفيون مقربون من اليمين بإعجاب أن "السيادة في الضفة الغربية تنمو من الأسفل، والاستيطان يتوسع بصورة غير مسبوقة. سموتريتش وستروك يصنعان التاريخ، ويمنعان قيام دولة فلسطينية". وبعبارة أخرى، يُنظر إلى الاستيطان نفسه كدليل على انتصار الرؤية: فكلما ازداد عدد البيوت اليهودية على تلال الضفة الغربية، ترسخت السيادة الإسرائيلية بحكم الأمر الواقع، واستُبعدت إمكانية الانسحاب أو إقامة كيان فلسطيني مستقل.

ومن منظور التيار المشيحاني، فإن نجاح مشروع الاستيطان ليس إنجازًا سياسيًا فقط بل أيضًا إقرار إلهي: "يد الرب في الأمر". كل مستوطنة جديدة تُعتبر تطبيقًا للوصية "وترثونها وتسكنون بها" وتجليًا لإرادة الخالق. وتُسمع كثيرًا بين أوساط المستوطنين مقولة: "كلما زادت المعارضة والضغوط، فهذا دليل أن الثمرة حلوة". هذه المشيحانية تمنح المستوطنين شعورًا بالرسالة حتى في مواجهة الصدامات والتوترات مع المجتمع الدولي. فعندما سُئل أحد قادة المستوطنين في الماضي ماذا سيفعلون إذا قررت حكومة في إسرائيل الانسحاب من معظم الضفة الغربية، أجاب: "هذا لن يحدث – الشعب لن يسمح. وإذا حاولوا، فستكون ساعة اختبار – وسنرى حينها من يستمع لصوت الرب ومن لا". هذه الإجابة تكشف عمق الإيمان بأن الاستيطان صار أمرًا إلهيًا، يعلو على الحسابات السياسية العادية.

الانعكاسات على القانون والمجتمع في إسرائيل
  تأثير التيار المشيحاني لا يقتصر على مناطق الضفة الغربية – بل تَسَرَّب أيضًا إلى منظومة القانون، الحكم والنقاش العام في إسرائيل. أولًا، في المجال القانوني–القضائي: الأيديولوجيا المشيحانية تدعو إلى ضمّ قانوني للضفة الغربية، أي فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة. في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد صعود اليمين الديني إلى الحكم، دُفعت مبادرات تشريعية هدفها تكريس السيطرة الإسرائيلية على المناطق وتقليل الرقابة القضائية على ما يجري فيها. فمثلًا، في آذار/مارس 2023 ألغت الكنيست أجزاء من قانون "فك الارتباط" لعام 2005، وأتاح هذا الإلغاء بشكل رمزي تجديد الاستيطان اليهودي في "حومش" (التي أُخليت في فك الارتباط). وفي تموز/يوليو 2023، كما ذُكر، مرت بالقراءة التمهيدية مبادرة قانون لفرض السيادة على الضفة الغربية، تنص على أن هذه المناطق "تشكل جزءًا لا يتجزأ من الوطن التاريخي للشعب اليهودي"، وتدعو لاتخاذ خطوات لتحقيق هذا الحق. ورغم أن هذا القانون لم يتحول بعد إلى ضم رسمي، فإن مجرد تأييد 71 عضو كنيست له يشير إلى الشرعية المتنامية لفكرة الضم – كنتيجة مباشرة لنشاط المعسكر المشيحاني–القومي في الكنيست.

إضافة إلى ذلك، يرى التيار المشيحاني في الجهاز القضائي الإسرائيلي، وخاصة في المحكمة العليا، عقبة محتملة أمام تنفيذ رؤيته (على سبيل المثال، ألغت المحكمة العليا في السابق قوانين سهّلت الاستيلاء على أراضٍ فلسطينية خاصة، مثل "قانون التنظيم" عام 2017). ولهذا فإن التعاون السياسي بين قادة اليمين المشيحاني (سموتريتش، سترّوك، بن غفير وغيرهم) وبين جهات مثل وزارة القضاء برئاسة ياريف ليفين لم يكن صدفة: كلا الجانبين يسعيان لإضعاف آليات الرقابة القضائية. وكما أشار أحد المعلقين، فإن الوزير ليفين كان مستعدًا لإعطاء الكهانيين والمشيحانيين كل ما يطلبونه مقابل دعمهم لـ"الانقلاب القضائي" – إصلاح يهدف إلى تقليص قوة المحكمة العليا. بالفعل، فإن خطوات التشريع في 2023–2024 المتعلقة بالحد من "ذريعة المعقولية" وتشكيلة لجنة اختيار القضاة حظيت بدعم كبير من أوساط المستوطنين، إذ يعتقدون أن ذلك سيزيل تهديد التدخل القضائي ضد مشروع الاستيطان. كما أن نهج "تجاوز المحكمة العليا" يتجلى أيضًا في التغييرات البنيوية: نقل الصلاحيات من الحكم العسكري في الضفة إلى المستوى المدني (سموتريتش)، وتعيين مستشارين قانونيين مقربين من سموتريتش للمصادقة على خطوات استيطانية. هذه الإجراءات في الواقع تُطمس الخط الأخضر وتُرسّخ القانون الإسرائيلي في المستوطنات دون إعلان رسمي، وهي ظاهرة غير مسبوقة في مداها. تبعاتها القانونية واسعة: إذ تخاطر إسرائيل بالصدام مع القانون الدولي الذي يحظر نقل سكان الدولة المحتلة إلى الأراضي المحتلة، لكن الحكومة المشيحانية تدفع بهذه الحدود أبعد من أي وقت مضى.

ثانيًا، على الصعيد الاجتماعي–الثقافي، يتجلى تأثير المشيحانية في الخطاب العام وفي منظومة القيم. فالتيار المشيحاني دأب على ترويج سردية مفادها أن مصلحة الجماعة الوطنية تعلو على الاعتبارات الإنسانية الفردية. مثال بارز لذلك ظهر في نقاشات صفقات تبادل الأسرى الإسرائيليين مقابل الإفراج عن أسرى فلسطينيين: فقد عارضت أوساط دينية–قومية كثيرة هذه الصفقات باسم "مصلحة الجماعة"، ورأت فيها تضحية بأفراد لصالح صمود الأمة. وقد سمّى منتقدوهم ذلك "تلاعبًا مشيحانيًا بالعقل"، في حين برروا موقفهم بأنه عقلاني وأن المؤيدين للصفقات "لا يرون الصورة الكاملة". هذه المواقف تستند إلى قيمة في التيار المشيحاني: قدسية الشعب والأرض فوق كل شيء، حتى فوق حياة الفرد إن وُجد تعارض. الأمر يرتبط أيضًا بالتراث التوراتي للتضحية (قصة "عقْد إسحاق" كرمز للاستعداد للتضحية). ويرى النقاد في ذلك إضعافًا خطيرًا لقيمة الحياة الإنسانية، بينما يعتبره المؤيدون حزمًا مثاليًا.

وعلى مستوى المجتمع الإسرائيلي عامةً، رافق صعود التيار المشيحاني استقطاب متزايد وتوترات بين فئات الشعب. فمن جهة، يشعر مؤيدو الأيديولوجيا المشيحانية (المتدينون والعلمانيون القوميون) أن رسالتهم التاريخية تبرر حتى الصدام مع إخوتهم اليهود المعارضين. وقد وُصف ذلك بأنه "حرب ثقافية" بين إسرائيليين يؤمنون بدولة ديمقراطية–ليبرالية وبين من يرون أولوية لهويتها اليهودية–المشيحانية. وقد تجلّى هذا الصدام مثلًا في إخلاء المستوطنات: ففي خطة فك الارتباط (2005) رأى كثير من أبناء الصهيونية الدينية أنها "مرسوم إبادة"، وردوا باحتجاجات عاصفة ورفض أوامر عسكرية في صفوف الجيش، بل وحتى دعوات لاعتبار الحكومة غير شرعية. وكان اغتيال رابين حدثًا صادمًا أبرز إمكان العنف الداخلي الكامن في الصدام بين الرؤية المشيحانية والسياسة الحكومية المعاكسة.

ومن جهة أخرى، ثمة أيضًا تأثير اجتماعي إيجابي بنظر أبناء التيار: فقد ضخّوا في المجتمع الإسرائيلي عناصر من القومية العميقة، وروح التطوع والاستيطان، وأعادوا إلى الخطاب مصطلحات تقليدية (مثل "الخلاص"، "رؤية الأنبياء") التي كانت حتى ستينيات القرن الماضي حكرًا على الجماعات المتدينة فقط. كما أن الصهيونية الدينية المشيحانية أنشأت نوى استيطانية أيضًا داخل الخط الأخضر، وأقامت مؤسسات تعليمية دينية–وطنية ساهمت في المجتمع (المعاهد التحضيرية قبل الجيش)، وشجعت على الخدمة العسكرية الفعالة – وكل ذلك عزز مناعة إسرائيل بطرق مختلفة. لكن حتى هذا النشاط الإيجابي رافقه توتر: فبعض هذه المعاهد والمدارس تربي على قيم تقول إن الأمر الإلهي يمكن أن يعلو على أوامر الجيش إذا وُجد تعارض (وهو موضوع يثير صراعًا متواصلًا مع الجيش، خاصة بعد فك الارتباط).

وجه آخر من التأثير هو في العلاقة مع الأقليات ومع الصراع العربي–اليهودي داخل الأراضي المحتلة 1948. فالتيار المشيحاني يميل إلى مواقف متشددة تجاه عرب إسرائيل والفلسطينيين، ويرى فيهم أحيانًا تهديدًا وجوديًا–دينيًا (يُربطون رمزيًا بـ"عماليق" أو "إسماعيل"). وقد تسربت هذه الرسائل إلى بعض الهوامش في المجتمع وأدت إلى ارتفاع في اعتداءات المستوطنين المتطرفين ضد الفلسطينيين ("تدفيع الثمن"). وخلال حرب الإبادة سُجّل تصاعد في عنف المستوطنين بالضفة، إذ إن آلاف الشبان من المستوطنات جُنّدوا في لجان الدفاع المحلية، وأحيانًا استُغل ذلك للاعتداء على فلسطينيين في مناطق B وC دون تدخل حكومي. هذه الظواهر أثارت انتقادات حادة في الداخل والخارج، وكثيرون حذروا من منزلق خطير نحو ميليشيات مدنية وقضاء ذاتي. لكن من منظور المشيحانيين، فإن المستوطنين في هذه المناطق يؤدون دور "حماة الأسوار" ضد العرب، ويستحقون كل الدعم.

الاستيطان واللاهوت: سموتريتش أداة

لقد أحدث التيار المشيحاني–الديني في الصهيونية الدينية خلال العقود الأخيرة تغييرًا عميقًا في المشهد الفكري، السياسي والجغرافي في إسرائيل. ما بدأ كفكر لاهوتي عند حاخامات مطلع القرن العشرين، تطور إلى حركة اجتماعية–سياسية واسعة تركت بصمتها على كل جانب تقريبًا من الواقع الإسرائيلي: حدود الدولة، طابعها القانوني، جدول أعمالها العام وحتى علاقاتها الخارجية. إن الرؤية المشيحانية – التي ترى في قيام إسرائيل وفي السيطرة على كامل "أرض إسرائيل" جزءًا من عملية الخلاص الإلهي – دفعت آلاف الناس إلى العمل: للاستيطان على تلال نائية، لخوض معارك قضائية، وللانخراط في عمل عام وسياسي لتعزيز رؤيتهم.

وعلى امتداد الطريق، عرفت هذه الرؤية نجاحات وكذلك إخفاقات وآلامًا: من حروب وعمليات عسكرية اعتُبرت خطوات في الخلاص، إلى إخلاء مستوطنات اعتُبر انسحابًا مؤلمًا؛ من نشوة تحرير الأماكن المقدسة عام 1967 إلى أزمة الثقة بعد اغتيال زعيم إسرائيلي عام 1995. لكن اليوم، كما يتضح من الشهادات والمعطيات التي استُعرضت، فإن المشيحانية الدينية لم تعد على هامش المجتمع – بل أصبحت في صميم مراكز القرار. بتسلئيل سموتريتش ورفاقه، جيل استمرار "غوش إيمونيم"، ينفذون بتواتر رؤية أساتذتهم: مزيد من المستوطنات، أقل قيود سياسية في وجه حلم "أرض إسرائيل الكاملة". الحكومة الحالية تنتهج سياسة تنسجم تمامًا مع فكرهم، في مسعى مُعلن "لدفن" حلّ الدولتين إلى الأبد.