في ظل أطول احتلال عسكري معاصر، يواجه الفلسطينيون تحديًا مزدوجًا يتمثل في الحفاظ على بقائهم الإنساني من جهة، وصيانة هويتهم الوطنية وحقهم في التنظيم والعمل المدني من جهة أخرى. ورغم القيود الأمنية والسياسية والاقتصادية الهائلة التي يفرضها الاحتلال، استطاع المجتمع المدني الفلسطيني أن يطور مجموعة من التكتيكات المبتكرة للصمود، حولت العزلة إلى مساحة للإبداع، والقمع إلى دافع لإنتاج معرفة جديدة.
إحدى أبرز هذه التكتيكات هي العمل من خلال الشبكات الأفقية بدلًا من الاعتماد على المؤسسات المركزية المعرضة للاستهداف. الجمعيات المحلية، المبادرات الشبابية، والمجموعات النسوية تنسج فيما بينها جسورًا غير رسمية للتعاون، ما يجعلها أكثر مرونة وأقل عرضة للتفكيك. كما أن هذا النمط من التنظيم يعكس تحولات عالمية في العمل المدني، حيث لم يعد البقاء مرهونًا بصرامة الهيكل البيروقراطي بقدر ما يعتمد على ديناميكية الشبكات وقدرتها على الحركة.
تكتيك آخر هو تسييس الحياة اليومية، حيث يتحول النشاط المدني البسيط ، مثل زراعة الأرض، إقامة معرض فني، أو حتى تشغيل منصة رقمية صغيرة – إلى شكل من أشكال المقاومة المدنية. هنا، يصبح الفعل الاجتماعي نفسه حاملًا لقيمة سياسية تتحدى محاولات الاحتلال لطمس الهوية والذاكرة. هذا النهج يفتح أمام العالم العربي تساؤلات أوسع حول العلاقة بين "الحياة العادية" و"النضال السياسي"، وكيف يمكن تحويل الممارسات اليومية إلى أدوات لإعادة تشكيل المجال العام.
أما في مجال نقل المعرفة، فقد طور الفلسطينيون نمطًا فريدًا من التوثيق والمناصرة العابرة للحدود. فالمنظمات الحقوقية ومراكز الأبحاث الفلسطينية لا تعمل فقط من أجل جمهورها المحلي، بل تسعى لإيصال الخبرة الفلسطينية في مواجهة الاستعمار الاستيطاني إلى حركات مدنية حول العالم. وهنا يتحول "الاستثناء الفلسطيني" إلى مصدر إلهام لحركات العدالة الاجتماعية، من جنوب إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية.
ورغم ذلك، يظل العمل المدني الفلسطيني محاصرًا بمعادلة قاسية: من جهة، يعتمد على التمويل الدولي الذي يفرض أجنداته وأطره البيروقراطية، ومن جهة أخرى، يسعى إلى الحفاظ على استقلالية خطابه وارتباطه بحاجات المجتمع. هذه المعضلة تجعل من التجربة الفلسطينية مساحة معقدة لا تخلو من التناقضات، لكنها أيضًا مختبر غني لفهم كيف يمكن للمجتمع المدني أن يستمر في إنتاج الفعل رغم الاختناق السياسي والاقتصادي.
إن ما يميز التجربة الفلسطينية ليس فقط قدرتها على الصمود، بل على تصدير المعرفة العملية في مواجهة أنظمة قمعية معقدة. ففي وقت يواجه فيه كثير من المجتمعات العربية أزمات سياسية وقيودًا متزايدة على حرية العمل المدني، يمكن للتجربة الفلسطينية أن تقدم دروسًا في كيفية التحايل على القيود، إعادة تعريف النشاط المدني، وبناء شبكات دعم إقليمية ودولية قادرة على إحداث فرق.
من هنا، يصبح العمل المدني الفلسطيني ليس مجرد شأن محلي، بل رصيدًا إقليميًا وعالميًا في التفكير بطرق مبتكرة للمقاومة المدنية. إن تكتيكات الصمود ونقل المعرفة التي طورها الفلسطينيون عبر عقود يمكن أن تكون بذرة لرؤية أوسع: كيف نبني مجتمعًا مدنيًا عربيًا قادرًا على البقاء والإبداع، حتى في أكثر البيئات قمعًا وظلامًا.