الجمعة  05 أيلول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مقبرة القسّام.. قرن من محاولات طمس الذاكرة الوطنية في حيفا

2025-09-05 10:40:56 AM
مقبرة القسّام.. قرن من محاولات طمس الذاكرة الوطنية في حيفا

الحدث - سوار عبد ربه

"يعني القسام لم يمت؟ صحيح أن الرجل استشهد في خريف 1935، ولكن الصحيح أنهم ما زالوا ينادون بقتله ويطلبون له الموت بعد ستين عاما... أتراهم يخافونه إلى هذا الحد؟ هذا الشيخ السوري الجبلاوي عاش في حيفا، شرب ماءها، أنجب فيها، وزوّج ابنه لإحدى بناتها، والأهم أنه أحب لها الحياة فاستشهد في سبيلها. ولهذا يدعون عليه بالموت، لأنهم يدركون المعنى الرمزي لانتصاره على الموت، "فكان جوهر الكتابة الدميمة يعني الموت لمن لا يموت".

-أحمد دحبور، الاتحاد، 2000

بابتسامة ساخرة ودهشة ممزوجة بالألم، وصف الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور مشهده الأول أمام مقبرة الشهيد عز الدين القسام في بلدة الشيخ المهجرة قرب حيفا. رأى على جدار المقبرة عبارة عبرية تقول: "الموت للقسام"، ثم كتب مقاله الشهير "الموت لمن لا يموت" المنشور في جريدة الاتحاد عام 2000، قائلا فيه: "فليهتفوا ما شاء لهم الهتاف: الموت لمن لا يموت، وللحياة أن تسير وفق مكر التاريخ".

تلك المفارقة التي رصدها دحبور قبل أكثر من عقدين تعود اليوم بشكل أشد عنفا، بعد مرور نحو قرن على استشهاد الشيخ عز الدين القسام، عبر استهداف ضريحه على أعلى المستويات الرسمية. إذ دعا وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال، المتطرف إيتمار بن غفير، خلال جلسة لجنة الداخلية في الكنيست، إلى "وضع اليد على الضريح" و"نقله" من المقبرة الإسلامية في مستوطنة "نيشر"، المقامة على أنقاض بلدة الشيخ.

ولم يكن بن غفير وحده من تبنى هذه الدعوة، فرئيس اللجنة البرلمانية، إسحاق كروزر من حزب "عظمة يهودية"، أعاد طرح مقترح نقل المقبرة، في حلقة جديدة من مسلسل الاستهداف المتواصل لمقبرة تعود إلى عهد الاستعمار البريطاني وتضم رفات شهداء القسام ومجاهدين فلسطينيين منذ عشرينيات القرن الماضي.

في لقاء خاص مع "صحيفة الحدث"، يوضح الكاتب والمحلل السياسي أمير مخول أن هذا الاستهداف لا يمكن فهمه من منظور ديني فحسب، بل هو سياسي بامتياز، ويأتي ضمن سياسة اقتلاعية منهجية ضد الأوقاف والمقدسات، والتي صودرت معظمها بعد النكبة تحت غطاء قوانين مثل "أملاك الغائبين"، رغم أنها تشكل ما يقارب 6% من أراضي الداخل الفلسطيني المحتل.
ويضيف مخول: "السبب واضح: وجود قبر عز الدين القسّام نفسه، الاسم الذي ما زال يُشكل مصدر إلهام لمجموعات المقاومة، ويختزل في رمزيته فكرة الكفاح ضد الاستعمار. لهذا يسعى الاحتلال إلى إزالته لا من الأرض فقط، بل من الوعي والوجود".

مقبرة القسام: التاريخ الحي لشهداء حيفا

لا تمثل مقبرة القسّام مجرد قطعة أرض، بل هي أرشيف حجري لذاكرة المقاومة الفلسطينية. تأسست في بلدة الشيخ (جنوب شرق حيفا بنحو 5 كم)، وتبلغ مساحتها نحو 45 دونما، لتكون أول مقبرة شهداء في فلسطين في القرن العشرين، والثانية داخل الأراضي المحتلة عام 1948 بعد مقبرة "طاسو".

بدأت حكاية المقبرة بعد استشهاد الشيخ عز الدين القسّام في 20 تشرين الثاني 1935، في اشتباك مسلح مع قوات الاستعمار البريطاني. وخشية من تحول جنازته إلى تظاهرة شعبية، قررت السلطات دفنه بعيدا عن المدينة. منذ ذلك الحين، أصبحت المقبرة مثوى لمئات الشهداء الذين ارتقوا في ثورة 1936–1939، وضحايا المجازر الصهيونية، مثل مجزرة المصفى والحواسة، ومجزرة بلد الشيخ أواخر عام 1947، التي ارتقى فيها أكثر من 60 شهيدا.

وبعد نكبة 1948، أُغلقت المقبرة أمام الدفن، وهُجرت بلدة الشيخ لتُقام مستوطنة "نيشر" على أنقاضها. ورغم محاولات الاحتلال إدراجها ضمن "أملاك الغائبين"، بقيت المقبرة قانونيا تابعة لوقف الاستقلال الإسلامي في حيفا.

يوضح الكاتب والمحلل السياسي أمير مخول، أن المقبرة كانت مستهدفة منذ عام النكبة، عندما كانت بلدة الشيخ تُعرف كموقع مركزي لمقبرة حيفا الشرقية. ويؤكد أن "المحاولة الأخطر" جرت في التسعينيات، حين سعت سلطات الاحتلال لمدّ شارع رئيسي فوق المقبرة، وهو المشروع الذي أُحبط بفضل حراك شعبي واسع قادته لجنة المبادرة الإسلامية ولجان الأوقاف في حيفا.

في وصف لهول المشهد آنذاك، جاءت مقدمة تقرير نُشر في جريدة الاتحاد عام 1997 بقلم الكاتبة ميسون أسدي، بعنوان: "عظام الآباء والأجداد في مقبرة القسّام تنادي: أنقذوا تاريخكم وجذوركم من مخالب بلدوزرات السلطة!".

تقول فيه: "لا أدري ماذا أصابني وأنا أتجول في مقبرة عز الدين القسّام، لقد اقشعرّ بدني لهول ما رأيت: القبور محطمة، الشواهد مسروقة، غرف الموتى تحولت إلى مراحيض لعابري السبيل وللمدمنين الذين خلفوا وراءهم بقايا المخدّرات. قبور كثيرة أصبحت مجهولة الهوية، الأعشاب البرية والأوساخ تملأ المكان، وإهمال فظيع لا يحتمله أي إنسان وطني غيور على تاريخ أجداده وجذوره".

وقد كُتب هذا التقرير على خلفية قيام آليات الاحتلال العسكرية بهدم سور المقبرة بتاريخ 29 آب 1997.

الاستهداف المنهجي لمقبرة القسّام: مسرد زمني

استنادا إلى المعطيات الواردة في كتاب "مقبرة القسام- الوقف المسلوب: كشف عملية الاستيلاء على الوقف بقوانين التحايل والقضاء المجيّر"، الصادر عن مؤسسة ميزان لحقوق الإنسان في الناصرة عام 2022، من إعداد الكاتب والباحث ساهر غزاوي، وبمساهمة تحريرية من المحامين مصطفى محاميد، فراس دلاشة، عمر خمايسي، وحسان طباجة، يمكن تتبع تسلسل زمني دقيق لمحاولات استهداف مقبرة القسام منذ نكبة عام 1948 وحتى اليوم.

فمنذ عام 1949، تعرضت المقبرة لمحاولات متواصلة لطمس الرموز الدينية والوطنية، وظلت هدفا دائما للمشاريع الاستيطانية والتهويدية، خصوصا من قبل الحكومات اليمينية المتطرفة. فبعد نكبة 1948، صادرت سلطات الاحتلال مساحات واسعة من الأوقاف الإسلامية، بما فيها مقبرة القسام، وتواصلت محاولات محو هويتها عبر تبديل الملكية أو تحويل الأراضي لأغراض تجارية ومدنية. وخلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ظهرت صفقات تبادل بين متولي الوقف وسلطات الاحتلال، في إطار محاولات قضائية لتحويل الوقف إلى عقار لا يعود لأصحابه الأصليين.

في عام 1978 جرت أولى محاولات الهدم بالجرافات، لكنها فشلت بفعل احتجاجات محلية. أما بين الأعوام 1997 و2006، فقد شهدت المقبرة اعتداءات استفزازية مباشرة، مثل وضع خنزير على أحد القبور، وتحطيم الضريح، وكتابة شعارات عنصرية وتحريضية. وفي الفترة ما بين 2010 و2016، امتدت التهديدات إلى مشاريع بنية تحتية، إذ جرى إحراق أجزاء من المقبرة ومد شبكات صرف صحي عبر أراضيها، في انتهاك صارخ لقدسية الموقع.

أما على الصعيد السياسي والقضائي الحديث، ففي كانون الثاني 2021 رفضت محكمة الاحتلال العليا التدخل القانوني بحجة "قانون التقادم"، ما دفع الأهالي ولجان شعبية إلى نصب خيام اعتصام لمنع الاقتطاع.

يوم من أيام مواجهة المحو

في المقابل، سُجلت مقاومة شعبية ومؤسساتية متواصلة، شملت تعليق الوقف، ورفع دعاوى قضائية، وتنظيم اعتصامات، إلى جانب نشر وثائق تاريخية عبر مؤسسات مثل "ميزان"، لإبقاء الصراع مفتوحا على خلفية الذاكرة والهوية.
وفي سياق الرد على تهديدات وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير الأخيرة، نظم مؤخرا يوم تطوعي في المقبرة، شارك فيه المئات من أبناء الداخل الفلسطيني المحتل، بإشراف لجنة "أوقافنا لرعاية المقدسات" المنبثقة عن لجنة المتابعة، وهيئة متولي وقف الاستقلال في حيفا.
وشملت أعمال تعشيب، وتنظيف، وتقليم أشجار، في رسالة واضحة مفادها أن المقبرة ليست بلا أصحاب، وأن ضريح القسّام لا يزال خطا أحمر.

أوضح عدد من النشطاء المجتمعيين لـ"صحيفة الحدث"، ممن فضلوا عدم الكشف عن أسمائهم بسبب مخاوف من الملاحقة الأمنية، أن استهداف مقبرة القسام لا يمثل مجرد اعتداء على موقع دفن، بل هو جزء من محاولة ممنهجة لمحو الذاكرة الوطنية والهوية الفلسطينية في الداخل المحتل. جميعهم اتفقوا على أن المقبرة تمثل رمزا حيا لمقاومة الفلسطينيين وتمسكهم بأرضهم وتاريخهم، وأن الدفاع عنها هو دفاع عن الكرامة والوجود.

وقال ناشط شبابي شارك في اليوم التطوعي: "الفعالية الأخيرة لم تكن مجرد مبادرة بيئية، بل كانت فعلا سياسيا واضحا. حين نظفنا الأرض، شعرنا وكأننا نحفر في الذاكرة وننتشلها من تحت ركام الإهمال والتهديد. القبور ليست فقط حجارة هي شواهد على من سبقونا في هذا الطريق، وكل محاولة لطمسها هي محاولة لطمسنا".

وأضاف: "ضريح القسام ليس حجرا فقط، بل جزء من وعينا الجمعي. نحن نعلم أن الهجوم عليه ليس عابرا. كل مرة يتم استهداف المقبرة، نشعر أننا نُستهدف كجيل ما زال يحمل الرواية والحق، ولهذا فإن وجودنا في المكان لم يكن رمزيا بل ضرورة".

في حين رأى ناشط مجتمعي من حيفا أن المشاركة في الفعالية حملت أكثر من معنى: "جئتُ بدافع شخصي، لأنني شعرت أن الصمت لم يعد ممكنا. المقبرة مهملة، مُستهدفة، ولكنها ما زالت تحكي القصة كلها. وهي قصة من حاولوا أن يعيشوا بكرامة، واستُشهدوا من أجلها. كان من المهم أن أكون هناك، لأن مجرد الوجود في المكان، في ظل هذا الكم من التهديد، هو بحد ذاته رسالة".

وتابع: "كان يمكن لأي شخص أن يظن أن الفعالية بسيطة، ولكنها في الحقيقة كانت صرخة جماعية بأن التاريخ لن يُطوى بسهولة. رأيت شبابا من أحياء مختلفة، لا يعرفون بعضهم، يعملون معا بصمت، بعزم، وكأنهم يقولون: لن نسمح بسرقة قبورنا ولا ذاكرتنا".

من جانبه، أكد ناشط حقوقي متابع للملف أن ما يجري يتجاوز حدود الفعل المحلي: "استهداف المقبرة هو تتويج لعقود من سياسات ممنهجة ضد المقدسات الإسلامية في الداخل الفلسطيني. ليس صدفة أن يكون ضريح القسام هدفا مباشرا، لأنه يحمل رمزية تتقاطع فيها المقاومة والهوية والذاكرة. من هنا فإن الهجوم عليه له بُعد سياسي بامتياز، لا يجب التقليل من خطورته".

وأضاف: "في كل مرة تتكرر هذه التهديدات، يُفتح جرح النكبة من جديد، لأن القضية ليست قانونا أو ملكية فقط، بل سردية كاملة تُحاول المؤسسة الإسرائيلية إزاحتها من المشهد. ولهذا فإننا نعتبر المقبرة جبهة أمامية، ويجب أن تُعامل على هذا الأساس: بالحراسة، بالوعي، وبالوجود المستمر فيها".