الأربعاء  03 أيلول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

السلطة الفلسطينية: حصار الداخل والخارج.. أزمة بنيوية وحدود الصمود/ بقلم: رامي بركات

2025-09-03 03:25:07 PM
السلطة الفلسطينية: حصار الداخل والخارج.. أزمة بنيوية وحدود الصمود/ بقلم: رامي بركات
رامي بركات

مقدمة

تعيش السلطة الفلسطينية أخطر مراحلها منذ نشأتها بعد اتفاق أوسلو، ففي حين تتكثّف الضغوط الأميركية والإسرائيلية بالعقوبات والرهان على بدائل إدارية، تتسارع في الداخل أزمات الانقسام وغياب الثقة الشعبية. يزيد من ذلك تغير المناخ الإقليمي، مع تراجع مكانة القضية الفلسطينية على أجندة دول عربية رئيسية بفعل موجة التطبيع، ما أتاح لإسرائيل توسيع الاستيطان وعزل غزة والضفة.

العودة إلى تجربة حصار ياسر عرفات قد تبدو ضرورية لفهم طبيعة اللحظة الراهنة. في ذلك الوقت، صمدت القيادة الفلسطينية بفعل وحدة الصف والالتفاف الشعبي، أما اليوم فالعزلة والانقسامات أعمق، والشارع أكثر يأسًا، وتقف السلطة أمام اختبار حقيقي لقدرتها على البقاء.

الحصار الخارجي: عقوبات وإعادة تعريف

شهدت الشهور الماضية تصعيدًا غير مسبوق في العقوبات الأميركية والإسرائيلية: تضييق مالي، حصار دبلوماسي، والتلويح بخطط لتفكيك السلطة أو تحويلها إلى هيئات خدماتية دون مضمون سياسي. تترافق هذه الضغوط مع سياسات الضم والتهويد وفصل غزة عن الضفة. أما الخطر الأكبر فهو التحوّل الرسمي الإسرائيلي في النظر للسلطة: لم تعد شريكاً لأي مشروع دولة، بل مجرد جهاز وظيفي لإدارة السكان وخدم أمن الاحتلال، مع منح المزيد من الغطاء لهذه السياسة عبر موجة التطبيع العربي.

ما بين حصار عرفات ومحنة اليوم: الفارق الجوهري

خلال الحصار الإسرائيلي على عرفات في المقاطعة (2002–2004)، كان هناك إجماع فلسطيني لدعم القيادة، وغطاء شعبي والفصائل متماسكة رغم محاولات الاحتلال والإقليم صناعة بدائل وخلق انشقاقات. لكن مع "خروج عرفات من المشهد" ودخول مرحلة ما بعده، ظهرت قيادة أقل استقلالية، ضعيفة التحصين الاجتماعي، أكثر التصاقًا بإملاءات الخارج، حتى كشف المشهد عن أزمة شرعية غير مسبوقة، وانفصال القرار السياسي عن مزاج الشارع نفسه.

مأزق القيادة: فقدان الاحتضان والشرعية

في عهد عرفات، صمدت القيادة لأن الشارع التف حولها وحتى المعارضون احترموا رمزيتها. اليوم، تراكمت التنازلات، من "واقعية التسوية" إلى تكرار الرهان على واشنطن وتل أبيب، وصولًا إلى قمع المعارضة وتهميش مؤسسات المجتمع المدني. النتيجة: تآكل الشرعية، وتحوّل السلطة إلى بنية بيروقراطية تسهر على استمرار ذاتها أكثر من التأسيس لمشروع تحرري.

الاقتصاد السياسي للأزمة: التبعية وطبقة الامتيازات

تحوّلت السلطة الفلسطينية خلال العقود الماضية من كيان يدير عملية تحرر إلى إدارة تخضع لقواعد "المانحين" ومال المقاصة، حتى صارت رهينة ضغوط الاحتلال وخططه المالية. نشأت طبقة بيروقراطية مرتبطة بالوضع القائم، همّها الأول حماية نفوذها في جهاز السلطة والاقتصاد، بينما ارتفعت معدلات البطالة (تجاوزت 25% في الضفة وأكثر من 50% في قطاع غزة) وازدادت الفجوة مع الجمهور مع استمرار القيود الإسرائيلية وسياسات الحصار.

الفصائل والساحة الداخلية: مأزق الانقسام والاختناق

الانقسام الحاد كبّل الفصائل الكبرى ماليًا وإداريًا وجعل المقاومة المسلحة إما مطاردة في الضفة أو محاصرة ومشغولة بمعارك الدفاع الذاتي في غزة. يترافق ذلك مع تصاعد القمع ضد الشباب والمبادرات المستقلة (عرين الأسود، الكتيبة)، وابتلاع إسرائيل المزيد من الأرض عبر الاستيطان، ما حوّل السلطة تدريجيًا إلى بنية "لا سلطة فعلية" تفتقد المدافعين عنها.

الهامش الإقليمي والدولي: فلسطين لم تعد أولوية

على المستوى العربي، باتت القضية الفلسطينية – لأول مرة منذ عشرات السنين – خارج أولويات العواصم المركزية مثل الرياض والقاهرة، ومعظم منظومة الإقليم اكتفت بوساطة شكلية وخطاب إنشائي بلا أثر فعلي. يزداد ذلك وضوحًا في ظل انشغال إيران بأزماتها الداخلية وانكفاء تركيا عن الفعل الإقليمي المباشر.

الفراغ الشعبي والبديل المحتمل

رغم حدة الأزمة وعمق الخسائر، أثبتت تجربة الفلسطينيين أن الفراغ لا يدوم، فابتكرت الجماهير البدائل في أزمات سابقة (كالمجالس الموحدة في الانتفاضتين، وتحركات الشباب خارج الفصائل). إن استمرار السلطة بشكلها الحالي مختل وغير قابل للصمود في المدى المنظور – لكن انهيارها لا يعني تلقائياً نجاح المشروع الإسرائيلي، بل قد يفجر حالة تحوّل تاريخية تتيح نشوء حركة مقاومة جديدة أو أطر تمثيلية شعبية غير متوقعة.

أين الحلول؟ إعادة تعريف المشروع الوطني

ما يحتاجه الفلسطينيون اليوم ليس مجرد "ترقيع إداري"، بل تحوّل جذري:

إطلاق حوار وطني حقيقي يعيد بناء المؤسسات بنية ديمقراطية وانتخابية ومحاسبة.

إعادة تعريف السلطة كأداة مؤقتة لخدمة الناس وحماية الهوية، وليس غاية بحد ذاتها.

مراجعة الالتزامات السابقة (أوسلو وغيرها) والتحلل من القيود الأمنية والسياسية غير المجدية.

رفع سقف الفعل الشعبي والنقابي والمدني و إشراك الشتات والخبرات الفلسطينية حول العالم في بناء برنامج مقاومة جديد.

خاتمة

لم تعد القضية اليوم شأن سلطة مهددة بالزوال بل مصير المشروع الوطني الفلسطيني كله. فجّر الفلسطينيون بدائل عبر التاريخ كلما ساد الانسداد، وسيبقى خيار استعادة برنامج التحرر والشرعية الشعبية متاحًا، وسيظل جوهر المعركة هو الدفاع عن الحرية والكرامة والهوية الوطنية مهما تعاقبت الأزمات.