للشهر الرابع على التوالي تحتجز إسرائيل كافّة إيرادات المقاصّة الفلسطينية، والتي تشكل (68%) من الإيرادات العامة للسلطة الفلسطينية، وبلغ متوسط قيمتها الشهرية خلال العام 2025 حوالي (850) مليون شيكل، والحجز يعني أنّ اسرائيل عملت على "تصفير" إيرادات المقاصة، وبالتالي فقدت الماليّة العامّة أهم مكونّاتها، وما تبقى لها فقط الإيرادات المحلية، والتي تشكّل حوالي (32%) فقط من الإيرادات العامة، وعملياً انكمشت الإيرادات المحلية بدورها بسبب انكماش دورة الاقتصاد وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة (28%)، أمّا المنح والمساعدات الخارجية فهي شحيحة ومحدودة، واقتصرت على دعم سعودي بقيمة (30) مليون دولار، ودعم مبرمج من الاتحاد الأوروبي عبر آلية "بيغاس".
ويأتي "تصفير" كافّة إيرادات المقاصة، دون أي مبررات، ولا حتى قانون كنيسيت أو قرار من مجلس الوزراء المصغر "الكابينت"، وإنما قرار لوزير المالية المتطرف "سموتريتش" لمعاقبة السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وخنق الاقتصاد الفلسطيني، ويأتي ذلك في سياق استراتيجية إسرائيلية واضحة، بل ومعلنة، تجاه الخنق الاقتصادي للفلسطينيين، من أجل تقويض الكيانية الفلسطينية، ومنع اقامة الدولة الفلسطينية، وتجفيف موارد السلطة الفلسطينية المالية، وإظهارها بمظهر العاجز عن تلبية الخدمات الأساسية للمواطنين من رواتب وصحة وتعليم وحماية اجتماعية وغيرها، بالتزامن مع جملة إجراءات إسرائيلية أخرى تخنق الاقتصاد الفلسطيني، مثل أزمة تكدّس الشيكل، واغلاق السوق الإسرائيلي امام العمال الفلسطينيين منذ عامين، والتهديد بقطع العلاقة البنكية بين البنوك الفلسطينية والإسرائيلي، والحصار المطبق على كافة القرى والمدن الفلسطينية من خلال سياسة البوابات والحواجز، والتي بلغ عددها حوالي (1,200) بوابة وحاجز وسدّة ترابية.
وعملياً تهدف إسرائيل من هذه السياسات والإجراءات إعادة هندسة الوعي الجمعي الفلسطيني، من خلال إظهار السلطة الوطنية بدور العاجز عن تقديم الخدمات الأساسية أو تلبية احتياجات المواطنين، أو دفع رواتب موظفي القطاع العام، من أجل خلق حالة شعبية – تحت الضغط الاقتصادي والافقار الممنهج- تجاه تقبل أي حلول أخرى على حساب الكيانية الفلسطينية. وأيضا العمل على تفتيت الهوية الجمعية الوطنية للشعب الفلسطيني، من خلال أدوات الضغط الاقتصادي لخلق انهيارات بنيوية واجتماعية، وخلق بيئة طاردة للحياة والاستثمار في فلسطين، وتحويل الضغط الاقتصادي إلى ضغط اجتماعي للانفجار الداخلي الفلسطيني، وخلق حالة من "الفوضى الخلّاقّة" بالمفهوم الكونداليزي له، وخلق حالة من الإحباط واليأس، تجعل الفلسطيني باحثاً عن أي حل لأزماته، على حساب قضيته الوطنية.
وعملياً الوضع القائم واستراتيجية إسرائيل الماضية قُدماً، تشكل تحديّاً جوهريّاً للمشروع الوطني الفلسطيني، والكيانية الفلسطينية، وهو التحدي الأكبر منذ تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وبحاجة إلى استراتيجية فلسطينية متكاملة للتصدي لهذا التحدي، وعدم الرهان على الزمن، أو على سقوط حكومة الثلاثي (نتنياهو – بن غفير- سموتريتش)، فالانتخابات الإسرائيلية القادمة بقي لها عام كامل، على فرض أنها ممكن أن تفرز حكومة أقل تطرفاً، ويجب أن تتبلور هذه الاستراتيجية على توحيد الكل الفلسطيني، ومشاركة كافة الاطياف من قيادة فلسطينية، وحكومة، وقطاع خاص، ومؤسسات مجتمع مدني، وأحزاب وفصائل فلسطينية، وإعادة البعث لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، وخلق موقف فلسطيني- عربي موحد، وبدعم من الدول الصديقة، فلا يعقل بأي حال من الأحوال أن يتم التعامل مع الأزمة الاقتصادية من منظور فني، وبجهود وزارة المالية والحكومة فقط، وإنما عبر استراتيجية وطنية شاملة، تجند لها كافة الموارد والامكانيات.
فيجب العمل فوراً على إطلاق حملة لتأمين شبكة أمان مالي من الدول العربية والصديقة لمدة (6) أشهر، لدعم الموازنة العامة، ووقف الانهيار البنيوي في الخدمات العامة، والذي بدأ عمليا بشكل جزئي، فالمعركة الاقتصادية – من منظوري- ربما تكون أخطر من المعركة العسكرية، كونها تهدف إلى كي الوعي الوطني، وإعادة تشكيل وعي جمعي قائم على تأمين الاحتياجات اليومية وسبل الحياة، والتفكير بأي حلول تعمل على تأمين مسلتزماته، والهبوط إلى المستوى الأول من سلم حاجات "ماسلو"، الأمر الذي يحقق رؤية الاستراتيجية الإسرائيلية التي تعمل بصمت وهدوء على انفاذ خطة الضم في الضفة الغربية، وتدمير قطاع غزة ليصبح أرض رمال وخيام، وتفويض السيادة والكيانية الفلسطينية، ورؤية سموتريتش معلنة بأنه يعمل على تغيير الواقع السياسي والجغرافي والديمغرافي في الضفة الغربية من خلال إعادة تشكيل الشيفرة الوراثية للضفة الغربية لخلق واقع جديد للمستوطنين مستدام وغير قابل للاسترجاع.
ربما بقي من الوقت ما يسمح بتدارك الحالة، عبر استراتيجية وطنية فلسطينية جامعة، ولكن انتظار "غودو" لحلول برهانات خاسرة أو غير واقعية، سيجعل من تكلفة أي حلول قادمة اعلى، خاصّة وأن إسرائيل تسابق الزمن للسيطرة الفعلية على الضفة الغربية.