الأحد  28 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

رجل القدس الذي لم يعوض بعد / بقلم: نبيل عمرو

2015-06-02 01:08:30 PM
 رجل القدس الذي لم يعوض بعد / بقلم: نبيل عمرو
صورة ارشيفية
 
ما الذي فعله فيصل الحسيني ليحظى بإجماع البشرية كلها بلقب أمير القدس.

وما زلت أذكر حينما جاء جثمانه من الكويت كيف استطاعت ظاهرة الزعيم الشهيد اقتحام الحواجز والأسوار العالية، واختصار المسافات البعيدة واحتلال القدس لساعات من أجل الوداع الأخير.
 
إن ما فعله فيصل هو الأبسط والأعمق والأجدى، فلقد اتحد بجسده وروحه وعقله وسلوكه مع كل تفاصيل القدس، بتركيبتها السكانية التعددية الخلاقة، فعرف الناس عائلة عائلة وفرداً فرداً، كما عرف الخصائص التي يتمايز بها القوم في العطاء للقدس ومن أجلها.
 
كان أهل القدس مطمئنين إلى أن بين ظهرانيهم مرجعا سياسيا ومعنويا ووطنيا لا غبار عليه، كانوا يأمون بيت الشرق الذي كان في عهده خلية حياة نشطة لا تهدأ، يستقبل الفقير قبل الغني، يلاحق الاستيطان الذي يقع على أي جزء من أرض القدس، يتلقى مع المحتجين هراوات الشرطة وتمتلئ رئتاه الكليلتان بالغاز إلى حد صار فيه اختناقه أشبه بإدمان دائم، ولقد وجد ابن القدس اللغة التي خاطب فيها بنجاعة الإسرائيليين والأمريكيين والعرب والعجم، كان مقنعاً للجميع حين يتحدث عن القدس وعن السلام والعدالة، وعن الحب الذي يبدده الاحتلال.
 
كان كل ما يقول ولم يخلو يوم واحد من قول بليغ ومؤثر، يمتلئ مصداقية وجدارة في الإقناع، فهو ابن عبد القادر الحسيني، الشهيد الكبير الذي أورث فيصل الشعور العميق بالوطنية التي لا يمكن أن تخدش، وفي بلادنا ومجتمعنا فإن من يعيش ويترعرع في كنف بيت تضوّع بعبير الشهادة من أجل هدف سام فإن سلسلة الاستشهاد لن تتوقف إلى أن يتحقق الهدف.
 
منذ لقائي الأول به وكان ذلك في موسكو، اكتشفت رجلا يحتل قلبك من الابتسامة الأولى ويصبح صديقك إلى ما لا نهاية من اللقاء الأول ويصون صداقتك به ذلك التواضع اللامتناهي في شخصه وسلوكه، وتبهرك قدرته على استنباط الطرائف من أصعب المواقف والوقائع، وكأنه لم يجد غير هذه الوسيلة لتخفيف الأعباء الواقعة على كتفيه واستنباط قدرة متجددة على المواصلة.
 
 وحين عدت إلى أرض الوطن كان أول مكان قصدته هو بيت الشرق، وأول عمل قمت به هو التشاور معه حول تأسيس جريدة تلائم الوضع الجديد الذي بلغناه، فقدم لي نصائحه التي تقيدت قدر الإمكان بها، وحين صدر العدد الأول كان فيصل أول من تلقى النسخة الأولى في مدينة القدس.
 
إن للأقدار العابها العجيبة الغريبة، لم يمت فيصل بفعل رطوبة السجن أو بفعل الهراوات التي تساقطت على جسده طيلة حياته الكفاحية، ولم يمت من الغاز الذي استوطن رئتيه وأوجعهما بلا هوادة، لم يمت برصاصة موجهة أو طائشة، كان محميا بروح القدس وبالرسالة التي حملها وبالناس الذين أحبوه، إلا أن قضاء الله الذي لا راد له استفرد به في غرفة بأحد الفنادق في الكويت حين كان ذاهبا إلى هناك من أجل الحصول على تمويل لمشاريع الصمود الهامة في عاصمتنا، لقد مات هناك وعاد مغلفاً بأسى الشعب الكويتي وحزنه على فارس القدس الذي ترجل مبكرا وبارك باستشهاده أرضا عربية عزيزة، فمن أين نأتي بفيصل آخر، شكّل حالة قوامها الإخلاص والمصداقية والوفاء والالتزام، من أين نأتي بصاحب الابتسامة الطفولية الجميلة والصوت الهادئ الذي يخفي وراءه عزيمة استثنائية عز نظيرها في هذا الزمن.
 
عزاؤنا في فيصل الذي لم يعوض بعد، أن الشعب الفلسطيني لابد وأن يجود يوما بمثله حتى وإن تأخر هذا اليوم.