الإثنين  02 كانون الأول 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

نُصّ أشكِنازي..روايةٌ من نوعٍ آخر/ بقلم: عبدالله لحلوح

2024-07-27 07:02:16 PM
نُصّ أشكِنازي..روايةٌ من نوعٍ آخر/ بقلم: عبدالله لحلوح

 

روايةُ الواقع، وواقع الرواية؛ من قلب القدس، امتدادًا إلى مستوطنات الضفة الغربية، وعودةً إلى القلب، لكنَّ المتغير والمختلف، هو أنَّ الناطق الرسمي فيها شخصيةٌ يهودية، يُنطقه الكاتب منذ الإطلالة الأولى، متحدِّثًا بالضمير الأول الفردي، منتقلًا بين أناه الراوية، وضمير الغائب العائد للشخصية الراوية التي ستنطق بعد حين، لكنَّ الراوي الداخلي الأول لا يسعه أن يتركها تتحدث عن نفسها لتفضحه، بل يفضحها ويفضح نفسه قبل أن نستمع لصوتها: "ولكنَّها كانت العروس الأشكنازية الوحيدة التي قبلتْ بي رغمَ أنني هجين، ولستُ أشكنازيًّا خالصًا من جهة الأب والأم" (ص14). فما بين الضميرين (الأنا وال هي) تتضح أركان الرواية القائمة على صوتين ردَّاحين، فكلٌّ يردح للآخر، ولا يلتقيان إلا على نقطة واحدة، هي الغش والخداع، فيخدعان بعضهما، لتصبح هذه الخديعة سمةً لدى الكل الممثَّل في الرواية، وتبدأ سيميائية العنوان بالنضوج مع الإطلالة الأولى على صفحات البدء؛ ليعرف القارئ أنَّ (النُّصّ أشكنازي) هو (إتسفيكا) الذي يحاول أن يتممَ أشكنازيته أو يتحلل منها بالعلاقة المضطربة مع الراوية (رونيت) التي تجمعه بها أسرار المغارة. وهنا تظهر تقنية التحفيز، ليتشوَّق القارئ إلى معرفة ذلك السر. ونظرًا لما تحمله كلمة (المغارة) من معاني العمق والغموض والتغطية والغور، فإنَّ الكاتب يلجأ إلى هذا الغموض مع ومضةٍ سريعةٍ في بداية الرواية (فمصيرنا ارتبط بسرِّ المغارة" (ص14). ثم ينقطع الحديث عن المغارة وأسرارها، ويتوقف الراوي عند نقطة محددة لا تخلو من التزييف الذي يمارسه أولئك العابرون على أنفسهم قبل أن يمارسوه على غيرهم: "حضَّرتُ نفسي، التقطتُ الطاقية السوداء لأضعها على رأسي، وترجلنا من السيارة كالأبطال" (ص20). ليظهر الصوت الفلسطيني في الفصل الثاني (خاوا: نبيه: اللي إلك إلك..واللي مش إلَك محرَّم عليكْ) وللتذكير فإنَّ (نبيه) هو صوت الفلسطيني في رواية القدس الأولى (كافر سبت) وقد أطل مع (حورية) في ثنائية جميلة في الرواية الثانية (حرام نسبي) وها هو يطل في خاتمة الثلاثية، ليقف مناهضًا لفكرة التهويد والتدليس التي يمارسها الآخر. وعلى الرغم من بساطة نبيه التي ظهر عليها في (كافر سبت) إلا أنه هنا يبدو ناضجًا واعيًا، ويختم فصله بحكمة بليغة: "وحتى لا أنشر الغسيل الوسخ كما يقولون، فكلُّهم ذهبوا إلى رحمة ربهم دون أن يأخذوا معهم شيئًا، ولم يبق من الذكرى سوى الأسى والشفقة على حماقة الإنسان" (ص36). هذه القفلة المحملة بكثير من الدلالات لا تُفسَّرُ إلا ضمن منظومة الوعي الفلسطيني، بل ما يراهن عليه الكاتب من وعيٍ يجب أن يكون في الإنسان الذي ينتمي للقدس، لأنه بالوعي وحده يمكن مقارعة الجلاد الذي لا يملك سوى فلسفة الكذب والخداع. وبعد ذلك تطلُّ حورية، وهذه الحورية ليست بأقلَّ وعيًا من نبيه، بل إنها تضارعه فكرًا وموهبةً في سرد وقائع لا تشبه الخيال، ولا تقبل بالواقع الواقعِ كما هو، فتفصحُ عن خيباتٍ كثيرةٍ تعرَّضَ لها جيلٌ طيب ساذج، وكأنها تستذكر سطر درويش: "كنّا طيبين وسُذّجًا. قلنا: البلادُ بلادنا بلادُنا. قلبُ الخريطة لن يُصاب بأيِّ داء خارجيٍّ". ولكنَّ حورية تمتحنُ الوعي الفلسطيني، وتحاول النبش في محنته التي وقع فيها: "فكما يبدو كتب نهاية تلخيصه بغلٍّ وغضب: لقد حوَّلنا المحامي الثعلب إلى "رشيد بيك" في رواية هرتسل بدون أن ندري وندرك أن هذا ما يفعله...." (ص51). وهذا التمازج والتعالق الأدبي التاريخي يأتي به الكاتب تلبيةً لنداء الفكرة التي بدأت تتبدد، أو أنَّ هناك من يحاول تبديدها، حتى يصل الكاتب إلى التعقيد بالوصول إلى المغارة التي حفَّزَ الحسيني قارئه لها منذ البداية، ليصبح المكان الأبرز والأهم والبؤرة التي تتشابك الأحداث حولها، وتلتف الرسائل في دهاليزها، إنها تلك المنطقة التي عرَّت كثيرين، وكشفت عن خواءٍ فكريٍّ في بطونهم، لأنَّ عقولهم خاوية أصلًا:"وصلنا إلى بيتنا الجميل في الشيخ جراح، والذي سكنَّاهُ بعد أن منحته لنا جمعية الاستيطان الدينية الوطنية" (ص61). ويلاحظ هنا التفات الكاتب لأفعال المنح التي تقابلها بالطبع بشكل ضمنيٍّ أفعال السلب، فأن تمنح تلك الجمعيات ما لا تملكه لمن لا يستحقه شعارٌ كرَّرَهُ الناس بعد وعد بلفور، وما زال الكثيرون يرددونه، لكن (إتسفيكا وجماعته) يطبقونه حرفيًّا، ويكذبون كعادتهم، وكل ما ومن حولهم في خدمتهم، أما من يخالفهم، أو يشكك في رواياتهم، سواء من الخارج أو من الداخل فإن الردود جاهزة: "وبما أن المغارة في بيتنا وتحت سيطرتنا فلن نسمح لأيِّ باحثٍ أو باحثة لا نثق بتوجهاتهم وبنتائجهم المستقبلية أن يدخلوا أو يدرسوا. وإن حصل وشكك أحدٌ بقصتنا نهاجمه في اليشيفوت (المدارس الدينية) حتى لا يجرؤ على المواصلة" (ص74). وهكذا أصبحت المغارة دالًّا رمزيًّا يحمل في معانيه الكثير مما يختزنه الفكر الصهيوني، وما يطبقه على أرض الواقع.

بعد هذه الصرعة التي شكَّلت تعقيدات الرواية وأسئلة الواقع، والجدل، يعود الكاتب بنا إلى نبيه وحورية سردًا وحوارًا، وهنا تبرز سخرية هجائية ناقدة مريرة، فالعنوان الذي اختاره الحسيني لهذا الفصل (السيستم "المنظومة") فيه ما فيه من معاني السخرية ودلالاتها، لكن ذلك لا يتعمق إلا بالولوج إلى قلب الحوار المسرود، سواء في قصة (الملوخية) أو (المركز الوطني للدجاج)، وغيرها من القصص التي يمكن أن تثير الحزن والضحك من شدة البكاء، أو البكاء من شدة الضحك، فالواقع المرّ يُقابَل أحيانًا بهذه السخرية السوداء المرَّة، لعلَّ وعسى. هكذا يفكر الحسيني، أو يفكر عنه شخوصه الذين يقفون في المواجهة.

إنها رواية من نوع آخر، رواية الواقع، رواية المكان والزمان، فيها ما فيها من دلالات لا تُقرأ على عَجَل، بل تحتاج إلى تمعن، وإلى قارئٍ حصيف، واعٍ، ومهما كان، فإنه بالضرورة سيخرجُ منها بأقلِّ الخسائر، وفوائد كثيرة، ولحظات مثيرة. إنَّ الكتابة عن المكان إن كُتبَت بقلم ابن المكان، فإنها ستكون أكثرَ واقعية، وأكثر صدقًا، وإن كانت رومانسية الواقع تفرض نفسها، فإنَّ عاطفة المكان تبقى أقوى وأعلى؛ لأنها مشحونة بفكرٍ لا يقبل القراءات المشبوهة. هذه الرواية بلغتها السلسلة، وأسلوبها الجذاب، وتكنيكها السردي المثير، تستحق أن تقرَأ، والكتابة عنها لن تكون محصورة، فأعتقد أن أقلام النقَّاد ستنطلق، وسيكتب الباحثون عنها، وسيجدُ طلبَةُ العلمِ فيها كثيرًا مما لم يتمكنوا من الوصول إليه في (كافر سبت، وحرام نسبي). جدير بالذكر أنَّ رواية (نص أشكنازي) للكاتب المقدسي عارف الحسيني صدرت عن دار الشروق 2024، وقد صمم غلافها الفنان التشكيلي الفلسطيني الملتزم سليمان منصور. وهذا لغلاف تشكِّلُه لوحةٌ لها بعدها الدلالي الرمزي، وهذا ما يعرِّفُ به الفنان منصور على مطوية الغلاف:"المستوطن فقد إنسانيته عندما قرر أن يصبح مستوطنًا، هو كتلة من الأسلاك الشائكة التي ترمز للقمع والاضطهاد. الشكل مصنوع من سلك واحد صدئ، ظاهرةٌ بدايته وكذلك نهايته، ومن الممكن أن يفرط بسهولة". وتقع الرواية في (153) صفحة من القطع المتوسط، وعلى غلافها الأخير ومضةٌ تحكي عن (إتسفيكا). وعلى مطوية الغلاف حكيٌ عن الحسيني الذي اجترحَ هذا السفرِ الإبداعي الجميل.