الثلاثاء  03 حزيران 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

سياسيات الإبادة والقوة التصفيرية

2025-06-01 07:30:11 AM
سياسيات الإبادة والقوة التصفيرية
رولا سرحان

 

ليست المشاهد الآتية من غزة لا بالقليلة على القلب، ولا بالثقيلة في ميزان الساسة. إنها مشاهد لها عنوان يشبه صورة غرائبية، موضوعها العري في "اللا- إمكان"،  يصور فيها الفلسطيني الغزي ككائن جائع عار يلهث خلف جوعة ليطفئه، وليس سؤاله عما يمكنه فعله، لأنه يحاول أن يفعل، ولكن سؤاله حول ما لا إمكان له في فعله عندما تفارق بسائط الأمور مقدرته. وبينما تنصب ألسن المحللين وراء كل التفسيرات المحتملة متناسية التمثلات التي تحملها الصورة التي توثق حدث التدافع المصحوب بغريزة الدفاع عن احتمالية البقاء الممكنة، فإن ما وراء الصورة أوسع وأثقل مما تحمله، لربما التهجير كما يُفسرون، أو لربما إضعاف حماس كما يُحللون، لكنها في جوهرها صورة عن الإنهاك الممنهج، الذي يصل فيه الإنسان حد الشعور بأنه لم يعد سوى كائن جائع يقف في خانة صفرية بلا منزلة.

إن ما تحمله الصورة هي بصمات سلب المقدرة، تفريغها من الأجساد، وعلى شكل تجويع يُصفيها من أي قوة محتملة وتجعلها غارقة في دوران العجز والضعف، ويكون اللا- إمكان القيمة المتعالية أو المفارقة، مكرسة الحضور في الأشياء الأولية البسيطة (كالطعام والماء والدواء)، بحيث لا يمكن تجاوز أو تخطي قيمة اللا- إمكان، لأنها لم تعد مجرد قيمة مضادة لما هو ممكن، أو ما هو ضمن "الإمكان"، بل هي قيمة خارج القياس، قيمة مطلقة، لا مرادف لها ولا ضد. وإذا كان اللا- إمكان مفارقا، فإن الإمكان، يصبح بلا معنى، ومفرغا؛ لأن أصل المعنى قائم على إمكانية القياس، فمعنى أن يكون المرء قادرا على فعل شيء، هو ألا يكون قادرا على فعل شيء آخر. فسلب المقدرة على عدم فعل الشيء إنما يعني سلب المقدرة على فعله بمحصلة نتيجتها الصفر، "تصفير" الفلسطيني، وتحويله إلى كائن صفري بلا منزلة، وبالمحصلة النهائية غير موجود.   

ففي التنظيرات الفلسفية الغربية، يناقش "الإمكان" و"اللا- إمكان" من منطلق السلطة التي تحدد ما يمكن للفرد فعله وما لا يمكنه فعله بالتزامن مع تطبيق قيم الحرية والديمقراطية، غير أن فهم "الإمكان" في صلبه إنما يعني حرية عدم "الإمكان"، أي حرية القدرة على عدم الفعل؛ لكن جر هذا الفهم نحو فهم أعمق للسياسات الاستعمارية، وفي سياق المشاهدات الآتية من غزة اليوم، وعلى مدار أكثر من 600 يوم من الإبادة، فإن القوى التصفيرية المطبقة تسلب من الفلسطيني "إمكانه" و"لا- إمكانه"، تفرغه منه، وتحول دونه ودونها، بما يجعل منه كائنا غير قابل للحياة لأنه لا يمتلك "إمكانه" و "لا- إمكانه".

تلك طبقة أخرى، عميقة أكثر، ودفينة في مكان أعمق، داخل سياسات الإبادة، التي عادة ما نخلط ما بينها وبين سياسات السيطرة، والتي ننحو كمراقبين وأكادميين إلى التفسير بموجبها. ففي الإبادة يبدأ التطبيق بسياسات السيطرة التي يمكن من خلالها التحكم بالأجساد بمقدرة شبه كلية ومطلقة، غير أن الفارق ما بين سياسات الإبادة وما بين سياسات السيطرة أن الأولى تأتي متلازمة ما بين القوة المادية المباشرة وغير المباشرة للسيطرة، وما بين القوى التصفيرية؛ أي أن سياسات الإبادة متضمنة لسياسات السيطرة، غير أنها تفوقها في غايتها النهائية، وهي مساواة كل ما هو قابل للحياة وقابل للعد بالرقم صفر. فما بين إدخال المساعدات وعدم إدخالها إلى قطاع غزة، تعين للقوة المادية المباشرة وغير المباشرة للسيطرة، والماثلة في: متى، وأين، وكيف، وماذا، ومن؟ بينما تشتغل القوة التصفيرية على تطبيق القيمة صفر، أي تحويل الفلسطيني إلى كائن خال من المقدرة وعدم المقدرة، أي خال من "إمكانه"، ولا "إمكانه" في الوقت نفسه.

 وفي الوقت الذي يجري فيه عادة مناقشة السياسات الحيوية للسلطة، وللقوى الاستعمارية، من منظور السيطرة على الأجساد والتحكم بها، وفق المفهوم "الفوكودي"، فإن هذه النقاشات تظل قاصرة في السياق الفلسطيني، لأن الغاية من الإبادة ينفي فكرة السيطرة على الأجساد بغية إدارتها حياتيا- حيويا، وضبطها والتحكم بها، لأن منطق الإبادة هو منطق غائي، أي له علته النهائية، والماثلة في التخلص من هذه الأجساد ومحوها بما يجعل من قيمتها العددية تساوي صفرا ديموغرافيا. بحيث لا يكون الفلسطيني "إنسانا حراما"، وفق المفهوم الذي طوره جورجيو أغابين استنادا إلى مفهوم فوكو، أي إنسانا مستباح الدم وخاضعا لإمكانية القتل لكنه لا يُقتل، وإنما يصبح "إنسانا ممحيا"، أي قابلا للمحو، عبر قوى التصفير، فيمحى، وبما يفترض أن هذا الشكل من البشر يعيش مع متلازمة وحيدة وهي أنه ممحي. وتشكل النكبة بأعوامها السبعة والسبعين عتبة تاريخية لتوسيع مفهوم الإبادة في دراسات الإبادة Genocide Studies، وفق هذا الفهم، أي أن تكون ممحيا من الكتابة التاريخية، ومن التعريف الهوياتي، ومن الاعتراف بالإبادة كحلقة مفرغة يتحرك فيها الفلسطيني ولا يخرج منها إلا ممحيا.