لا توجد قواعد منطقية أرسطية أو جدلية أو تفكيكية أو جينيالوجية تحكم تفكير الإنسان المتوسط. الإنسان "العادي" يهتم مثل أي كائن ثديي آخر بالبقاء، والدفاع عن رغد حياته الشخصية، وحياة الأقربين قدر الإمكان. لا يهمه على نحو جوهري ما يجري في مسكن الجيران الأقارب ناهيك عن الأباعد.
وعندما يتصل الأمر بالتفكير في الهموم الشخصية، فإن الشخص يفعل في المتوسط ما يستطيعه من أجل تحقيق غاياته ومآربه بالطرق المتاحة كلها، وعندما تتعارض المصالح الشخصية في الأمن الحياتي ورغد العيش مع المصالح أو المبادئ العامة، أياً كانت، فإنه في العادة ينحاز إلى ما يحقق أهدافه الشخصية، حتى لو اضطر إلى التضحية بما يظنه الحق أو العدل أو الصواب.
يدرك الفريق الاجتماعي المهيمن أن الإنسان في العموم يسلك على هذا النحو، ولذلك يتم استخدام العصا والجزرة من أجل تجنيد الأنصار الذين يعملون في خدمة النخبة المسيطرة بما يسمح فعلاً بأن تكون الأغلبية صامتة على الأقل لكي تنجو برأسها ولا تلقي بنفسها إلى التهلكة. وهكذا يصمت الناس عندما يبدو أن الصمت جريمة كبرى في مواجهة أحداث ضخمة لا يجوز الصمت حولها.
للأسف لا يؤثر المعتقد: الدين، أو الفكر، أو الايديولوجيا كثيراً في سلوك الفرد، ويتم تكييفه في الوعي ليتقبل ما ينسجم مع المصلحة الشخصية المتعارضة على نحو جلي أو مضمر مع المبادئ الاعتقادية. هكذا مثلاً يمكن أن نجد فلاحاً متديناً في ريف الخليل، وشاباً يسارياً، أو ليبرالياً من القرية نفسها يسلكون بالشكل نفسه عندما يتعلق الأمر بحرمان المرأة من حقها في ميراث الأرض. وعلى الرغم من أن الدين والماركسية والليبرالية خصوصاً بالنكهة النسوية تتبنى جميعها فكرة إعطاء المرأة حقها أو بعضه على الأقل، فإن هؤلاء الرجال الثلاثة يتفقون على فعل عكس ذلك. كيف يفعلون ذلك؟ ليس صعباً أن نفهم و "نتفهم" مواقفهم: لماذا يكون علي أنا بالذات أن أكون الأهبل الذي سيضحي بممتلكاته من أجل الالتزام بهذه المبادئ الجامدة؟ الله غفور رحيم، أو الاشتراكية لا تعني أن أطبق وحدي نظاماً اشتراكياً...الخ، لذلك يتحالف الرجال الثلاثة ضد حقوق المرأة دون تردد، بينما يمكن أن يقتل أحدهم الآخر عندما يتصل الأمر بجهاد المسلم ضد الكفار أو نضال الليبرالي ضد الدكتاتورية الشيوعية وما إلى ذلك من قضايا تفرق الفئات الثلاث المذكورة أعلاه.
المسافة المشار إليها آنفاً بين النظرية والممارسة أو بين النظر والعمل موجودة منذ فجر التاريخ، وهي مؤشر على النفاق الأخلاقي للبشر الذي يسمح من ناحية بأن يرضوا "أناهم الأعلى" على حد تعبير فرويد دون أن يتنازلوا فعلياً عن نمط صراع البقاء الذي يحدد شكل الحياة في الغابة حيث تتصارع الكائنات من أجل الحصول على أكبر حصة من موارد الطبيعة اللازمة للعيش على أفضل نحو ممكن.
وإذا كان الهم اليومي هو الشغل الشاغل للبشر الحقيقيين فإن ألعاب التفكير المعقد في قضايا السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد السياسي لا تحتل في حياة الفرد العادي أية مساحة تذكر. وإذا كان من نافل القول إن أحداً لا يستطيع أن يأخذ موقفاً سياسياً أو اقتصادياً مستنداً إلى المعرفة "العلمية" دون أن يكون قد قرأ بدرجة من التعمق أعمال أشخاص مثل أرسطو وابن خلدون وجون لوك وماركس وسمير أمين ومهدي عامل ومورغنذاو...الخ، فإن النتيجة اللازمة هي أن الناس تتبنى المواقف في القضايا العامة بدون خلفية نظرية وبدون تفكير على السواء.
معنى ذلك أن الناس يأخذون مواقفهم انطلاقاً مما يسمعون في المسجد أو في وسائل الإعلام الجمعي المؤثرة، من قبيل الجزيرة والميادين والعربية، أو من وسائط التواصل الاجتماعي مثل فيس وتويتر حيث يلتقط أحدنا الموقف المنسجم مع ثقافته ومسلماته العامة ويتبناه دون أي تفكير يذكر. بالطبع يظن الفرد "السوي" أن هذا الرأي هو عنوان فرادته وامتيازه وتفوقه المذهل بما يمنعه من رؤية أنه فرد من قطيع واسع يردد الكلام نفسه دون أن يتنبه إلى آليات تشكل هذه الأراء أو سياقها الفعلي. يذكرنا هذا بمثال سارتر الشهير حول قناعة الشاب الأمريكي بأنه مميز جداً لأنه اشترى بنطال جينز ماركة "إكس" الرائعة بما يجعله شخصاً فريداً في ذوقه وأناقته الشبابية. ملايين الشبان يعتقد كل واحد منهم أنه فريد في اختياره تلك الماركة. وهكذا يظن من يرددون كلام الجزيرة عن وعي أو عن غير وعي أنهم اكتشفوا على نحو رائع أن بشار الأسد كان طاغية، أو أنه كان نصيرياً كافراً أو أن الشيعة لا يحبون "ستنا" عائشة. بداهة لا يستطيع هذا الفرد/القطيع المشحون بالمعطيات السمعية/البصرية السائدة، أن يفكر للحظة أن هذه الأشياء التي كانت تعلنها دقات الطبول على مدار خمسة عشر عاماً كان يمكن أن تختفي ولا يفكر فيها أحد لو أن الأسد ذلك الشيطان الكافر الدكتاتور تعاطى مع المشروع الصهيوأمريكي وانضم لركب الإمارات الإبراهيمي.
ليس هدفنا في هذه العجالة معالجة السياسة، فقط أحببنا أن نبين حدود الفرد المتوسط ودوره في السياسة الراهنة في زمن انتشار المعاني على قوارع الطرق كلها بما يسمح لأي فرد مهما كان ساذجاً أن يرتدي ثوب المعرفة. أذكر صبية صغيرة كتبت تعليقاً معارضاً لي على نحو رصين وشكلاني تماماً، وعندما أعطيت رأيي لتشات جي بي تي كتب لي فوراً التعليق الذي استخدمته الفتاة. لقد سلم الإنسان المتوسط مقاليده تماماً لأساطين صناعة المعرفة متظاهراً أنها آراؤه الشخصية. وإذا كان جيل سابق من المؤمنين بايدلوجيتهم يطلبون من خصومهم فرصة لإحضار الجواب من الشيخ أو القائد، فإن القطيع الحالي يجد ضالته السهلة على بعد نصف متر أو أقل، هي المسافة بين أصبعه وشاشة المحمول التي تمتلك الأجابات كلها.
ما العمل مع هذا المواطن المعطل التفكير الجاهز لأن يؤمن بأن الدائرة المربعة ترسم بسهولة إن آمنا بذلك، أو أن إسرائيل ستنتهي لأن مدة صلاحيتها الدينية قد انتهت...الخ؟ لا نزعم أن لدينا أية إجابات، ويبدو أن الحزب والقائد الكاريزمي ما يزال هو الاقتراح الواقعي الوحيد، وهو ما يعني أن على حركات التحرر أن تصر على بناء الحزب الثوري وعلى توفير القيادة الكاريزمية وإعطائها سمات وملامح إعجازية تدفع الجمهور إلى التسليم بها كما تفعل تجاه أولياء الله الصالحين من فئة التكنولوجيا الراهنة.
هل يبدو طرحنا أعلاه فاشياً؟ بالطبع يبدو كذلك. لكن ما العمل حقاً لإقناع الناس بالتفكير الطويل المرهق والممل في قضايا يبدو مسارها العقلاني مملاً وطويلاً أكثر بكثير من طريق اكتشاف البلوتونيوم وغيره من النظائر المشعة؟!