الأحد  15 حزيران 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

تنشيط سوق العمل.. تحديات رئيسة/ بقلم: كمال هماش

باحث في سياسات سوق العمل

2025-06-14 04:14:51 PM
تنشيط سوق العمل.. تحديات  رئيسة/ بقلم: كمال هماش
كمال هماش

يعتبر تنشيط سوق العمل أحد روافع التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة  في الدولة الحديثة، والتي تتشارك مقوماتها في مواجهة التحديات المختلفة مما يستدعي في الحالة الفلسطينية تكامل هذه المقومات كشرط لمواجهة التحديات، وعلى رأسها الاحتلال وسياساته الكابحة للإمكانيات الظاهرة والكامنة، وذلك لترسيخ قواعد الانعتاق من  اغتصاب الأرض ونهب الموارد ومصادرة مستقبل الإنسان الفلسطيني.

وحيث أن المقصود بعملية التنشيط هو تفعيل سياسات وآليات سوق عمل نشطة تضمن بتدخلاتها نموا كميا وكيفيا للموارد البشرية  التي تمثل جانب العرض في السوق من جهة، ومن جهة أخرى تحفيز القوى الكامنة المولدة لفرص العمل في المجتمع وخاصة القطاع الخاص والمشروعات الصغيرة  والمبادرات الذاتية، التي تشكل بمتطلباتها العمود الفقري لاستيعاب العرض المتزايد من القوى العاملة.

ولا شك بأن الشراكة الاجتماعية  التي تضم القطاعين الخاص والعام إضافة للمؤسسات التمثيلية للقوى العاملة من نقابات وغيرها تمثل الركيزة الأساسية للعملية التنموية المذكورة عبر تصميمها لسياسات سوق عمل نشطة والسهر على تنفيذها كل من موقعه باعتماد حوار اجتماعي فعال ومستدام يحقق التكامل في الأداء باتجاه إنجاز أهداف السياسات المرسومة.

إن هذه الأفكار جميعا تضمنتها شعارات مؤسسة العمل الفلسطينية منذ نشأة السلطة وتأسيس وزارة العمل، ولكن الملفت للنظر أنه ورغم بناء الاستراتيجيات ومأسسة الشراكة الاجتماعية وترسيم العناوين اللازمة لسوق عمل نشطة، إلا أن التقييم الظاهري لتحقيق الأهداف يبقى متواضعا مقارنة  بالسياسات والخطط المعلنة، من حيث تفاقم البطالة وتدني معايير العمل اللائق وتخبط سياسات الشركاء، لتتحول في بعض الأحيان إلى مشاكسات يسعى فيها كل طرف للهيمنة على الأطراف الأخرى أو الانغلاق فعليا على ذاته، رغم شعارات الانفتاح والاستعداد للحوار.

وهو الأمر الذي يستدعي الإجابة على العديد من التساؤلات حول أسباب الفجوة بين أهداف الخطط والاستراتيجيات المعلنة من جهة وبين المخرجات من جهة أخرى.. علما بأن مراجعة الخطط تلك وسياسات التدخل التنفيذي لها عبر مسيرة مؤسسة العمل تؤكد على صوابيتها النظرية بل وتفوقها على سياسات العمل في دول نامية مستقلة. خاصة وأن تلك السياسات والخطط نجمت عن توصيات  مئات ورش العمل والندوات والمؤتمرات المحلية والدولية، علاوة على جهود تطوير وتدريب الموارد البشرية لمؤسسات سوق العمل.

وقد ارتكزت سياسات التشغيل نظريا ومنذ البدايات على إطار استراتيجي عام يحدد سيناريوهين متناقضين لمسار سوق العمل ووفقا للتطورات السياسية (الاستراتيجية الوطنية متوسطة المدى للتشغيل 2000)، أولهما النجاح في السير قدما نحو بناء الدولة المستقلة من خلال إنهاء حالة الصراع والاحتلال، بما يترتب على ذاك من سيادة على الموارد الطبيعية وسيادة على الحدود وحركة السلع والبضائع ورأس المال، بينما يذهب السيناريو الثاني إلى فشل مفاوضات السلام المفضية لدولة فلسطينية مستقلة، واستمرار الصراع وسياسات الاحتلال في مصادرة الأرض والإنسان في سياق تدمير قواعد واحتمالات قيام دولة فلسطينية مستقلة.

وستحاول هذه الورقة الإجابة عن السؤال الرئيس حول الفجوة الواسعة ما بين الخطط والأهداف المرسومة وبين ما تحقق منها على أرض الواقع، عبر تحليل المعيقات والصعوبات التي تعترض  تحويل الأزمة إلى فرصة للإنجاز، وتضيف الجديد من نقاط الضعف، وفي المقابل تنهك نقاط القوة التي يمتلكها الفلسطيني، لاستخلاص العبرة وتلافي الأخطاء قدر الممكن.

وتنقسم عوامل اتساع الفجوة بين السياسات الوطنية لتنشيط وتنظيم سوق العمل ومخرجات هذه السياسات إلى:-

أولا: عوامل موضوعية على رأسها استمرار الاحتلال وسياسات تحطيم مقومات المجتمع والسلطة. 

وفي ما يتعلق بالعامل  المذكور  فإنه لا داع للإسهاب في توصيف سياسات وأهداف الاحتلال الظاهرة والمعلنة على لسان قادته، وما ينجم عنها من آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية، مما يعني استمرار الصراع  والمزيد من سياسات التدمير لمقدرات شعبنا من جميع الجوانب عبر مصادرة الأرض والقتل والاعتقال والحصار الاقتصادي، وإرباك أي عمل لتنظيم وتطوير المجتمع ومؤسساته السياسية والاقتصادية والثقافية.

إن السياسات الاحتلالية تستهدف أصولا استحالة إنجاز الخطط والسياسات عبر عدم السماح بالاستقرار للبيانات والمعلومات والإحصاءات اللازمة لبناء الخطط ونجاحها، وذلك عبر القيود على حركة القوى العاملة والحصار والتضييق على المنشآت وحركة البشر والبضائع ورأس المال، بتشريعات ظالمة أو إجراءات ميدانية تتراوح بين وضع مئات الحواجز وصولا إلى الإبادة الجماعية وما بينهما من قمع.

وتبقى مهمة مواجهة هذا التحدي مهمة رئيسة لقيادة منظمة التحرير باعتبارها قبطان المسيرة نحو الاستقلال وإقامة الدولة المستقلة، متسلحة بما يمكن أن تنجزه مؤسسات السلطة من بنية تحتية ومؤسساتية مدنية. وبتوظيف صمود ونضالات شعبنا بالتعاون مع الأنصار الدوليين لتجاوز هذا العائق.

ثانيا: عوامل ذاتية  تتصل بأداء أطراف سوق العمل الفلسطيني من حكومة وقطاع خاص ونقابات ومنظمات أهلية.

وتعتبر هذه العوامل حجر الرحى في حسم السيناريو الملائم للواقع في ظل استمرار الاحتلال، مما يعني اعتماد استراتيجيات تنموية انعتاقية في ظل الصراع، ومن بينها سياسات تنظيم وتنشيط سياسات سوق العمل التي تأخذ واقع الصراع بعين الاعتبار، وهي بلا شك مهمة ثقيلة على أطراف سوق العمل، وخاصة في ظروف إغلاق سوق العمل الإسرائيلي.

ومن أهم المعالم المعيقة لتحقيق الأهداف بسوق عمل نشيطة ومنظمة:-

أولا: الضعف البنيوي لأطراف الشراكة الاجتماعية.

ويتجسد ذلك في غياب التمثيل الحقيقي للعمال والمنحصر في اتحادات تكاد تكون جزءا من مؤسسة السلطة الرسمية بل ويحمل بعض قادتها درجات وظيفية، إضافة إلى عضويتها الضئيلة مقارنة بعدد القوى العاملة، نتيجة لضعف العمل على تنظيم وانضواء العمال تحت لوائها من جهة، وإحباط العمال من جدوى الانتساب لهذه الاتحادات التي تحولت لامتدادات سياسية تتجدد بانتخابات مفصلة على مقاس مجموعات بعينها. مما يقلص مصداقية تمثيل هذه الاتحادات للعمال ويضعف أثرها في تنفيذ السياسات كشريك وطني.

ومن جانب آخر فإن تمثيل القطاع الخاص في مؤسسة الشراكة الاجتماعية والمكون من اتحادات رجال الأعمال والصناعات والغرف التجارية، ينحصر في  قادة الأعمال الكبرى والذين يتم فرزهم بطريقة أكثر ديمقراطية نسبيا من الاتحادات النقابية من حيث استقلاليتهم النسبية.

إلا أنه لا يمكن اعتبار هذا التمثيل يغطي غالبية أصحاب المنشآت الصغيرة والتي تشكل أكثر من 95 % من المنشآت الاقتصادية وتشغل الغالبية العظمى من العمال، والتي تتطلب تنظيما مهنيا وتمثيلا يوازي أهميتها اقتصاديا واجتماعيا.

أما على الصعيد الحكومي فإن معضلاته الرئيسة تتمثل في عدم إيفاء الحكومة بالتزاماتها وشعاراتها لمحاربة البطالة والفقر، ويبرز ذلك في غياب موازنات خلق فرص العمل عبر الوزارة  وخاصة فيما يتعلق بالدعم المقر منذ أيام حكومة قريع لصندوق التشغيل كمثال، الأمر الذي أخر إقلاعه حتى عام 2012.

ثانيا:- فوضى الهيكلة والتي تأخذ أشكالا متعددة منها:-

أولا:- الحراك الهيكلي للموظفين في قطاع العمل والتشغيل مع تسنم كل وزير جديد للمسؤولية، عن طريق تحريك الخبرات المهنية من دوائرها لأغراض الترقية على شاغر لا علاقة له بالخبرة، وملء الفراغ الناجم بموظفين جدد لم يمتلكوا التدريب والخبرة المختصة بالوظيفة، وفي حالات أخرى تهميش الكفاءات من جانب المسؤول.. وغالبا ما تحكم التنقلات والتهميش نزعات الزبائنية والمحسوبية وليس حاجات العمل.

ثانيا:- تفريخ الهيئات من الإدارات العامة للوزارة  كما حدث مع التدريب المهني والتعاون دون دراسة للجدوى وتأهيل متخصص ومناسب للكوادر القيادية، وكأنها تمت لغرض استيعاب ترقيات عليا. ودون أن تقدم قيمة مضافة ملحوظة للإدارات السابقة  بل ربما العكس.

وأحد الأمثلة على الفجوة بين السياسات والمخرجات والتي تتحمل مسؤوليتها الوزارة في مجال التدريب المهني، فإن السياسات النظرية التي ارتكزت إلى قاعدة supply driven by demand للمواءمة بين مخرجات التدريب وحاجات سوق العمل، تجاهلت توصيات بخصوص قطاع السياحة الريادي، فمثلا  ألغيت دورات تدريبية كانت موجودة في مجال خشب الزيتون في مركز تدريب بيت جالا، وهي حرفة مطلوبة وتكاد تنقرض لصالح المنافسة الإسرائيلية التي أسست مركز ndc لتوفير التحف والأيقونات والتماثيل  للسياح والحجاج المسيحيين، إضافة إلى دورات ضرورية تم إغلاقها مثل صيانة الهاتف الخلوي في نفس المركز، وفي وقت سابق تم إغلاق دورة الخراطة الفنية والحدادة وهي مهن مطلوبة. والقياس على ذلك في مراكز أخرى.

وعلى صعيد العمل التعاوني والذي يمكن أن يشكل عصبا اقتصاديا هاما لتوليد فرص العمل وزيادة الدخل، فإن الجهود والسياسات لم تثمر ما هو جديد على صعيد تحول العمل التعاوني إلى قطاع تشغيلي رأسمالي ذو جدوى في الناتج القومي الإجمالي، ويعود ذلك أساسا إلى ثقافة تلقي المنح والمساعدات السائدة والتي ساهمت فيها بعض مؤسسات المجتمع المدني واتجاهات المانحين دونما انسجام مع السياسة الرسمية لتحويل قطاع التعاون لقطاع منتج ومتطور معتمد على ذاته.

هذا إلى جانب الاكتفاء من جانب الوزارة  بمتابعة أعمال الجمعيات الروتيني من انتخابات وتقارير إدارية ومالية وتسجيل الجديد وتصفية بعضها بالقانون، باستثناء ما يعلن أحيانا منفصلا عن خطة تحشيد للتنظيم التعاوني من قبل وزير أو مسؤول في مناسبات متفرقة.

كما أن غياب التعليم والتثقيف التعاوني المنهجي وضعف الإرشاد والتوجيه الجماهيري للعمل التعاوني، وإسقاط معهد التعاون والتثقيف العمالي من هياكل وزارة العمل بعد أن كان موجودا في ظل الإدارة المدنية للأسف، مثله مثل دورات خشب الزيتون والبناء والخراطة.