الثلاثاء  17 حزيران 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

استدامة غير مستدامة| بقلم: أ. لما عواد

2025-06-16 08:00:24 AM
استدامة غير مستدامة| بقلم: أ. لما عواد
أ. لما عواد

الاستدامة" في السياق الفلسطيني.

في ظل ازدياد استخدام مصطلح "الاستدامة" في خطابات التنمية ومشاريع الدعم الدولية والمحلية، تبرز تساؤلات جوهرية حول مدى واقعية هذا المفهوم، خصوصًا في السياق الفلسطيني المعقّد سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وعلى الرغم من أن "الاستدامة" تُقدَّم كمبدأ رئيسي لضمان ديمومة أثر المشاريع وتقليل الاعتماد على المانحين، إلا أن الواقع يشير إلى مفارقة واضحة، تختصرها الجملة التي أصبحت تتردد في الأوساط الميدانية حول "الاستدامة مش مستدامة".

ففي الخطاب التنموي الفلسطيني، تكاد لا تخلو ورقة مشروع أو استراتيجية تدخل دولية أو محلية من مصطلح "الاستدامة"، والذي يُقدَّم كأنه الحل السحري لضمان ديمومة الأثر، وتقليل الاعتماد على المانحين، وتعزيز المسؤولية المحلية. ولكن حين ننزل من مستوى الخطابة إلى الواقع، نصطدم بمفارقة قاسية، فمعظم المشاريع التي تُسوّق على أنها "مستدامة"، إما تختفي بعد انتهاء التمويل، أو تتحوّل إلى عبء على المجتمعات المحلية، او عدم احداث أي تغيير، لإبقاء الامر ضمن حالة الاحتياج الدائم.

تجميل الخطاب... لا معالجة الأسباب.

تشير الدراسات والمراجعات النقدية المتعددة إلى أن الاستدامة كما تُطرح في مشاريع التنمية الفلسطينية ليست نابعة من تحليل جذري للاحتياجات المحلية أو من ظروف السيادة المحدودة، بل تأتي استجابة لمتطلبات الممول، وبمنطق السوق والنتائج السريعة. حيث يُطلب من الجهات المنفذة إنتاج "نموذج قابل للاستمرار"، دون توفير بنية قانونية واقتصادية تُعزز هذا الاستمرار فعلًا. وعليه، يغيب التخطيط الفعلي طويل الأمد لصالح إنجازات شكلية وسريعة، وتتحول مشاريع كثيرة إلى مبادرات مؤقتة، تُطوى مع انتهاء التمويل، وتعبر عن واقع يوضح التناقض بين الشعارات الرنانة وبين الواقع العملي، خاصة في سياقات مثل التنمية، المشاريع، أو السياسات العامة.

ماذا نقصد بالاستدامة؟ هل فعلاً مشاريعنا "مستدامة"؟ ما الفرق بين "استدامة لغوية" و"استدامة فعلية"؟

" ضمن ورش العمل، وعلى رأس كل وثيقة مشروع، تُزين الكلمة الذهبية "استدامة" العناوين، لتُروّج لنا أنها الحل السحري (لتمويل محدود + وخطة قصيرة الأجل = لأثر طويل المدى).

الواقع، كما أصبح يعرفه أغلبنا، شيء آخر تمامًا، فالاستدامة الحقيقية لا تأتي من "تقرير مخرجات" ولا من "ورقة تقييم نهاية المشروع"، الاستدامة تبدأ حين يُسأل المجتمع: "شو بدكم؟"، وحين تُبنى البرامج على ثقة الناس، لا على رغبة الممول. لكنها في أغلب الأحيان تتحول إلى وهم إداري، يتم تغليفه في كلمات رنانة، وتنتهي صلاحيتها مع آخر دفعة تمويل، كم من مبادرة أُطلقت باسم النساء، وتوقفت قبل أن تصل إليهن؟ كم من برنامج ريادي أو بيئي أو شبابي رُوّج له على أنه "نموذج للتنمية المستدامة"، ثم اختفى دون أن يُترك له أثر؟ نحن أمام ظاهرة اسمها: "استدامة مش مستدامة"، حيث تكون الاستدامة مجرد ديكور لغوي، لا ممارسة فعلية، هذا ليس مجرد نقد، إنه دعوة للتوقف.... لنعيد تعريف "الاستدامة" بأصوات النساء، وبصبر العاملات، وبإرادة المجتمعات.

أولًا: الاستدامة كفخ لغوي، الاستدامة كما تُطرح في معظم المشاريع ليست مفهومًا فعليًا نابعًا من سياق فلسطيني، بل هي نسخة مفرغة من محتواها، تُقدَّم ضمن مصطلحات مانحة مثل exit strategy أو value for money وبما أن التمويل المشروط هو الأداة الرئيسية في المشاريع، فإن أي "استدامة" لا تأخذ بعين الاعتبار بنية الاحتلال، وقيود السيادة، وواقع التجزئة الجغرافية، هي استدامة وهمية.

ثانيًا: التمويل غالبًا ما تُربط "الاستدامة" بقدرة المشروع على "توليد الدخل" أو "الاعتماد على الذات"، دون التوقف عند شروط السوق الفلسطيني المشوه، الذي يخضع للتحكم الإسرائيلي، والقيود على الموارد، وسياسات الجمارك والضرائب المجحفة. فإذا كانت البنية الاقتصادية نفسها غير مستقلة، فكيف نتحدث عن مشاريع مستدامة؟ هذا الطرح يُعيد إنتاج منطق الليبرالية الجديدة: انسحاب الدولة، وتفكيك المسؤولية العامة، وتحميل الأفراد عبء الاستمرارية.

ثالثًا: على حساب النساء والفئات المهمشة غالبًا ما تُسقط مشاريع "التمكين الاقتصادي" للنساء تحت عنوان الاستدامة، لكنها لا تعالج الأسباب البنيوية للفقر أو التهميش، يتم تمويل تدريب أو دعم صغير، ثم يُطلب من النساء أن "يحافظن على المشروع" دون بنية قانونية حامية، أو سوق عادل، أو حماية اجتماعية، هكذا تتحول الاستدامة إلى مسؤولية مفروضة على الفئة المهمشة والهشة، بدل أن تكون التزامًا ممنهجًا من الدولة والمجتمع.

رابعًا: غياب الحوكمة والمتابعة من الناحية المؤسسية، لا توجد معايير واضحة لقياس الاستدامة في القطاع العام أو الأهلي الفلسطيني. حيث تنتهي معظم المشاريع بتقارير تقييم شكلية، لا تُخضع النتائج لتحليل معمّق، ولا تُستثمر الدروس المستفادة، فلا السياسات تُراجع، ولا البرامج تُعدل بناءً على الأثر، بل يُعاد تدوير نفس النماذج من جديد.

فجوة التمويل والواقع الاقتصادي.

"بيحكولنا "مشروع مستدام"، بس بنكتشف إنه "استدامة مش مستدامة"… وين راحت الخطة؟ وين راحت الموارد؟ وخلصت الفكرة لما خلص التمويل".

العديد من البرامج التي تُروَّج تحت شعار "الاستدامة" تتجاهل السياق الاقتصادي الفلسطيني القائم على الاحتلال والتحكم بالموارد، والإغلاق المتكرر، والتشتت الجغرافي. كيف يمكن لأي مشروع محلي أن يكون "مستدامًا" في ظل هذه المعطيات؟ وكيف تُحمَّل المجتمعات مسؤولية الحفاظ على مشاريع دون تمكينها فعلًا؟ هذه الأسئلة تفتح الباب لنقد السياسات التنموية السائدة، التي تُفرّغ "الاستدامة" من بعدها السيادي والعدالى.
النساء أول المتضررات

النساء والفئات المهمشة والهشة، هن/هم أول المتضررات في برامج "التمكين الاقتصادي"، وغالبًا ما يُلقى عبئ الاستدامة عليهن بعد انتهاء المشروع، رغم أنهن ما زلن يعانين من فجوات بنيوية في الوصول إلى التمويل، والسوق، والحماية القانونية، والعمل اللائق.  وتُسجَّل حالات كثيرة لمبادرات نسوية توقفت تمامًا فور انتهاء فترة التمويل، دون ترك أي أثر مؤسسي أو حماية

اجتماعية أو متابعة جدية، بذلك، تتحول "الاستدامة" من أداة دعم إلى عبء إضافي، ومن شعار إلى التزام فعلي إن تجاوز هذا الواقع يتطلب إعادة تعريف الاستدامة من منطلق وطني وشامل، يأخذ بعين الاعتبار عناصر السيادة، العدالة الاجتماعية، والملكية المجتمعية للبرامج.

ماذا نريد؟ نحو استدامة حقيقية. من شعار إلى التزام فعلي "استدامة مش مستدامة" ليست مجرد جملة ساخرة، بل توصيف دقيق لحالة بنيوية نعيشها يوميًا في فلسطين، وإذا أردنا تجاوز هذا الفخ، علينا أن ننتقل من استهلاك المصطلحات، إلى إنتاج حلول قائمة على فهم الواقع، لا على تجميله.

ولتحقيق ذلك، هنالك حاجه الى.

  • تمويل غير مشروط يُبنى ويراعي أولويات المجتمعات المحلية الحقيقية.
  • شراكات مجتمعية حقيقية تبدأ من القاعدة، لا من المانح.
  • مساءلة حقيقية لمخرجات المشاريع، ومدى استمرارها فعليًا، وليس فقط لأموالها.
  • بنية قانونية واقتصادية، تُمكّن النساء والفئات الهشة من الاستمرار دون اتكال.
  •  تعزيز مفاهيم الاقتصاد التضامني والاجتماعي كبدائل مستدامة.
  • تفعيل أدوار الدولة والمجتمع، لا الانسحاب منهما.
  • دعم البنية التشريعية لحماية النساء والرياديات والفئات الهشة.

الاستدامة مش كلمة حلوة، مش تمويل بس، الاستدامة التزام، وخطاب مسؤول.

الاستدامة ليست مجرد بند في مقترح مشروع، بل التزام طويل الأمد تُقاس فعاليته بما يبقى بعد انتهاء كل مرحلة. وإذا لم تُربط هذه الاستدامة بسياسات وطنية عادلة وبقدرة حقيقية على الصمود، فإننا سنبقى نُكرّر نفس النموذج: "استدامة مش مستدامة

"فالاستدامة" الحقيقية ليست مجرد بند في مقترح مشروع، أو "خط إنتاج" داخل مشروع، بل التزام طويل الأمد تُقاس فعاليته بما يبقى بعد انتهاء كل مرحلة، وقدرة الناس على بناء ما يبقى بعد أن يرحل الجميع.  إنها نتيجة منطق تخطيط وطني شامل، يربط بين السيادة السياسية والاقتصادية، ويعيد الاعتبار للدور العام، وإذا لم تُربط هذه الاستدامة بسياسات وطنية عادلة وبقدرة حقيقية على الصمود فإننا سنبقى نُكرّر نفس النموذج " استدامة غير مستدامة".