الجمعة  20 حزيران 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

متابعة الحدث| الرقابة العسكرية في "إسرائيل": كيف تدار وما هي صلاحياتها؟

2025-06-19 09:35:21 PM
متابعة الحدث| الرقابة العسكرية في

 

متابعة الحدث

منذ إعلان قيام "إسرائيل" عام 1948، وُلدت الرقابة العسكرية كواحدة من أولى المؤسسات التي تأسست في كنف المشروع الصهيوني، وارتبطت مباشرة بشعبة الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال. هذه الرقابة لم تكن يومًا هيئة شكلية أو رمزية، بل أُنيطت بها مهمة مركزية تتمثل في ضبط الرواية الإعلامية وتقييد كل ما يُنشر حول القضايا الأمنية، استنادًا إلى قانون إلزامي يُجبر وسائل الإعلام على عرض كل مادة تتعلق بالأمن القومي على الرقيب العسكري قبل النشر. الشعار الذي تحمله الرقابة – "الحرية في التعبير بمسؤولية" – يُخفي خلفه شبكة من الإجراءات الصارمة التي تخنق حرية الصحافة وتمنح الدولة اليد العليا في التحكم بالمعلومة، دون أن تُضطر للكشف عن ذلك أمام الجمهور.

مصطلح "القضايا الأمنية" الذي يُفترض أن يحدد نطاق تدخل الرقابة، صيغ بعبارات فضفاضة ومرنة تسمح بتفسيره بطرق عديدة، ما يمنح الرقابة مساحة شبه مطلقة للتدخل. ولا يقف الأمر عند المراجعة المسبقة، بل يتعداه إلى منع وسائل الإعلام من الإشارة إلى أي تعديل أو حذف قد طرأ بفعل الرقيب، ما يجعل حجم الرقابة الفعلي مخفيًا عن وعي الجمهور. الأدهى من ذلك، أن إسرائيل، رغم ادعائها الانتماء إلى "العالم الديمقراطي"، لا مثيل لها بين الدول الغربية في إدارة جهاز رقابي بهذه الصيغة الصارمة والدائمة.

في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد التوترات الأمنية والعمليات العسكرية، شهد نشاط الرقابة العسكرية تصعيدًا لافتًا. عام 2024 مثّل ذروة هذا التصعيد، حيث قدّمت المؤسسات الإعلامية الإسرائيلية ما مجموعه 20,770 مادة إخبارية إلى الرقابة لمراجعتها قبل النشر، بحسب ما كشفته معطيات رسمية نشرتها بالتعاون مع موقع "سيحا مكوميت" ومنظمة "الحق في حرية المعلومات". من بين هذه المواد، تم حظر نشر 1,635 مادة بشكل كامل، بينما خضعت 6,265 مادة أخرى لتعديلات وحذف جزئي. هذا يعني أن أكثر من 38% من المحتوى الإعلامي الذي أنتجته وسائل الإعلام المحلية خلال عام واحد، خضع لتدخل رقابي مباشر. هذه الأرقام تكشف ليس فقط عن اتساع حجم الرقابة، بل أيضًا عن مدى مركزية الدور الذي تلعبه في تشكيل الصورة الإعلامية داخل "إسرائيل"، خاصة في أوقات الطوارئ والحروب.

الهيمنة الرقابية لا يمكن فهمها دون التوقف عند العلاقة البنيوية بين المؤسسة العسكرية والمؤسسات الإعلامية. فبحسب أحد الباحثين الإسرائيليين، يعود انخراط الإعلام الإسرائيلي في الأجندة الأمنية إلى ثلاثة أسباب رئيسية. أولها أن معظم المراسلين العسكريين هم في الأصل خريجو المؤسسة العسكرية أو الاستخباراتية، ولديهم علاقات وثيقة بتلك الدوائر، ويُدركون جيدًا أهمية العمليات النفسية في الحروب الحديثة. بعضهم يحصل على معلومات حصرية تُمنح له كامتياز مقابل الامتثال للمؤسسة والترويج لروايتها. إلا أن هذا السبب، وإن كان مهمًا، لا يُقارن بوزن السبب الثاني: القبضة المحكمة التي تمارسها المؤسسة العسكرية عبر الرقابة العسكرية الرسمية، تحت شعار "حماية الأمن القومي". والسبب الثالث، والذي لا يقل أهمية، هو القناعة الذاتية المتجذّرة لدى كثير من الصحفيين الإسرائيليين بأنهم ليسوا مجرد ناقلي أخبار، بل "جنود في خدمة الدولة"، يرون في الصحافة امتدادًا لواجبهم الوطني. وهكذا، لا تكون المسألة مجرد رقابة مفروضة، بل اندماجًا طوعيًا في مشروع أيديولوجي تقوده المؤسسة العسكرية. والنتيجة؟ نحن – كجمهور فلسطيني أو عالمي – غارقون فيما يصنعونه من "واقع"، واقع يُهندَس بعناية في الوعي الجماعي، لكنه ليس بالضرورة هو الواقع الفعلي على الأرض.

في هذا الإطار، نشرت الحكومة الإسرائيلية وثيقة رسمية تتضمن قائمة محظورات صارمة يُمنع على وسائل الإعلام تداولها. تتنوع هذه المحظورات لتشمل المواقع العسكرية أو الأمنية، أسماء القواعد، تحركات القوات، تفاصيل إنتاج الأسلحة أو تخزينها، الصور التي توثق الأضرار في المواقع العسكرية، الإخفاقات الأمنية في منظومات الدفاع مثل القبة الحديدية، معلومات عن أنشطة استخباراتية وأسماء عملاء، بيانات عن أسرى أو مفقودين، تفاصيل القتلى قبل الإعلان الرسمي، خطط الطوارئ والإخلاء، إضافة إلى تقارير داخلية وأماكن سقوط الصواريخ. هذه القائمة الواسعة تُحوّل الإعلام الإسرائيلي إلى ساحة مقنّنة، تُدار فيها المعلومة بموافقة مسبقة من المؤسسة الأمنية، وتُقصى فيها أي رواية مخالفة.

في سياق التصعيد الأخير مع إيران، شددت الرقابة قبضتها أكثر فأكثر. فقد عممت، قبل يومين فقط، رسالة موجّهة إلى رؤساء التحرير، وقعها رئيس الرقابة العميد كوبي ماندلبليت، تضمنت تعليمات مشددة تمنع تصوير أو نشر أي معلومات تتعلق بسقوط الصواريخ، أو الاعتراضات التي تنفذها منظومات الدفاع الجوي. كما شددت على منع استخدام الطائرات دون طيار لتصوير المواقع المتأثرة أو بث مقاطع فيديو عبر منصات التواصل دون إذن رقابي. وادعت الرسالة أن بعض هذه المواد يتم إنتاجها من قِبل "العدو" ضمن حرب معلوماتية موجهة ضد الجبهة الداخلية.

وفي خطوة تعكس انتقال "إسرائيل" من الرقابة غير المباشرة إلى التشريع القمعي الصريح، أقر الكنيست قانونًا جديدًا ليلًا، يفرض عقوبات جنائية على كل من يخالف تعليمات الرقابة في زمن الحرب. القانون يحظر تصوير مواقع سقوط الصواريخ أو عمليات الاعتراض، كما يمنع وسائل الإعلام، المحلية والأجنبية، من التصوير أو البث خلال فترات الطوارئ. والأخطر أن القانون الجديد يُنهي مرحلة الغرامات المالية ويستبدلها بعقوبات سجن فعلي تتراوح بين 20 و30 شهرًا، وهو ما يشكل تصعيدًا غير مسبوق في تجريم العمل الصحفي الحر داخل "إسرائيل".

ما تقدمه الرقابة العسكرية الإسرائيلية من ذرائع أمنية قد يبدو مقنعًا ضمن سياق الحروب، لكن الواقع يكشف أن الأمر يتجاوز الضرورات التكتيكية المؤقتة إلى بنية دائمة من التحكم والسيطرة. ففي الوقت الذي يدّعي فيه النظام الإسرائيلي تمسكه بالقيم الديمقراطية وحرية الصحافة، يُدار المشهد الإعلامي الفعلي بخيوط غليظة من الرقابة، والتواطؤ، والأدلجة، والتجريم. وهكذا، لا يبقى للمعلومة مكانها الطبيعي، ولا للحقيقة فرصة للظهور، في مشهد يُكتب ويُحرر تحت إشراف البندقية.