من المفهوم في علم السلوك أن الجميع يسعى إلى تحقيق مصالحه وتلبية رغباته، وفقًا لما يراه مناسبًا وضمن قناعاته الخاصة. وبناءً على ذلك، فإن الأحكام على الأمور غالبًا ما تُبنى من منظور المصلحة الشخصية، دون اكتراث فعلي بفهم مصالح الآخرين أو تقديرها. وفي سياق التفاوض، يدافع كل طرف عن مصالحه مستخدمًا إمكانياته لتعظيم مكاسبه إلى الحد الأقصى.
لذلك، يصبح مفهوما أن مفهومي الصواب والخطأ، كما يراهما الناس، أمر نسبي يرتبط بمصالحهم الخاصة، وليس بالحقيقة المطلقة أو الواقع المرير.
هذه المقدمة ضرورية لفهم الكثير من الجدل المُثار هنا وهناك بشأن أزمة فائض الشيقل في السوق الفلسطيني. وأؤكد هنا على عبارة السوق الفلسطيني، وليس البنوك الفلسطينية، لأن البنوك جزء من السوق، وليست السوق بأكملها.
يخرج علينا الكثيرون ممن هم إما من أصحاب المصالح أو من أصحاب العلم بالنظريات المالية والبنكية، ويضعون الملف كاملا إما ضمن مسؤولية البنوك الفلسطينية أو سلطة النقد الفلسطينية.
نظريا هذا صحيح، كونها الأجسام المسؤولة عن النقد والمال، ولكن هذا لو كانت هناك عملة فلسطينية خالصة تصدرها سلطة النقد الفلسطينية، مما يعني التزامها بإيداع ما تطبعه وتحويله إلى العملات الأخرى لتمكين العمليات المالية.
في حالتنا الفلسطينية فإن هذا غير صحيح وبالتالي فإن من يحاولون إيقاع نظرية العملة على السوق الفلسطيني يقومون باجتهاد في غير محله.
فالبنوك الفلسطينية تعمل كما كافة المؤسسات في فلسطين تحت مظلة اتفاقية باريس الاقتصادية وتحت مظلة انتقائية إسرائيل في التطبيق.
وبناء عليه، فإن قدرة البنوك على قبول الإيداعات بأي عملة تعكس الإمكانيات المتاحة للتصرف بهذه العملة ضمن الجهد المعقول والمقبول. وفيما يخص عملة الشيقل فإن دور البنوك هو استقبالها من الجمهور وشحنها للبنك المركزي الإسرائيلي مصدر هذه الورقة، والذي يكون مجبرا على استقبالها حسب الأعراف الدولية واتفاقية باريس. وهنا يأتي واقع التصرفات الإسرائيلية المعتادة بعدم الالتزام بأي أعراف أو قواعد أو قوانين، واستخدام كل ما يرونه مناسبا لمصالحهم وأهدافهم بالطريقة التي يرونها.
من هنا فإن امتناع البنك المركزي الإسرائيلي غير القانوني والبعيد عن الأعراف والقواعد عن استقبال كميات الشيقل الفائضة من البنوك الفلسطينية؛ كدّس هذه الأموال لدى البنوك إلى حد وصلت فيه إلى عدم القدرة على استقباله أولا، وأدى إلى نضوب الأرصدة لهذه البنوك بعملة الشيقل الإسرائيلي لدى البنوك المراسلة.
للتوضيح فإن الشيقل الذي يودعه المودع الفلسطيني في البنوك العاملة في فلسطين يتم شحنه للبنك المركزي الإسرائيلي، وبالتالي يترجم إلى رصيد في حسابات هذه البنوك لدى البنوك المراسلة، ويتم استخدام هذه الأرصدة لتنفيذ النشاطات المالية المرافقة للنشاطات الاقتصادية، فهذه الأرصدة تستخدم أما للتحويل المباشر للمصدرين الإسرائيليين أو بهدف التخليص الجمركي أو التحويل من عملة الشيقل للعملات الأخرى كالدولار للاستيراد من الخارج. وبالتالي فإن توقف الشحن يؤدي إلى توقف هذه العمليات المالية وبالنتيجة توقف النشاط الاقتصادي المرافق وبالتالي توقف الحياة اليومية الفلسطينية.
وفي الحقيقة فإن الخطورة بالفعل وصلت إلى هذا الحدّ.
أشعرت البنوك، الاقتصاد والسوق الفلسطيني بهذا الموضوع مبكرا، وحاولت بكل جهدها توجيه المعنيين للضغط بهدف الشحن كمبدأ أساسي، كما وجّهت البوصلة لتسريع التحول الرقمي لتجنيب الاقتصاد الوقوع في مطب الكاش القاتل.
إن إصرار الكثيرين على التعامل بالكاش في سبيل تحقيق أرباح خاصة والضغط لإدخالها إلى البنوك من أهم أسباب المشكلة.
ما يحصل حقيقة هو دخول كميات نقدية مهولة من السوق الإسرائيلي بوسائل شتى سواء من خلال الإنفاق الاعتيادي من فلسطينيي الداخل في السوق الفلسطيني أو ما يقبضه العاملون الفلسطينيون في السوق الإسرائيلي نقدا، وهذان أمران مقبولان ويمكن تحمل أحجامهما ضمن الدورة الاعتيادية، ولكن من الواضح أن دخول كميات أكبر بكثير تخنق الاقتصاد الفلسطيني وستؤدي به إلى الهاوية إن استمرّ الأمر على هذا الشكل، ويتم إدخال هذه الأموال من خلال استخدام عدة وسائل مثل شراء الذهب بكميات كبيرة أو شراء سلع وعقارات بمبالغ طائلة نقدية أو إدخال هذه الأموال من خلال بعض الصرافين واستبدالها بالعملة الصعبة في المقابل.
ما يتم من الضغط للتحول الرقمي للعمليات الاعتيادية؛ هدفه محاصرة ومحاربة دخول هذه الأموال التي تخنق الاقتصاد الفلسطيني، وليس الضغط على المواطن. فكلما توجه المواطن للعمليات الرقمية يفوّت الفرصة على من يدخل هذه الكميات لاستخدام هذا المواطن لتحقيق أهداف هذه الفئة المضرة بالاقتصاد الفلسطيني وليس العكس.
يأتي سائل ليسأل وكيف يقوم المواطن بتغذية أرصدته البنكية إن لم تقبل البنوك الإيداعات النقدية؟. هذا سؤال محق ومنطقي على هذه الصورة، ولكن لنسأل أسئلة مقابلة؟
كيف يستلم موظفي السلطة رواتبهم؟ الجواب: عبر البنوك
كيف يستلم معظم موظفي القطاع الخاص رواتبهم؟ الجواب: عبر البنوك
كيف يقوم القطاع التجاري بالتحاسب ودفع مستحقاتهم؟ الجواب: عبر البنوك
إذن وبعيدا عن متسوقي الداخل وعمال الداخل فيتوقع أن يكون أكثر من ٨٠٪ من النشاط التجاري في فلسطين عبر البنوك والأموال الرقمية.
ومن الواضح أن هناك مستفيدين من إبقاء القطاع الاقتصادي الفلسطيني ضمن الإطار النقدي! وإلا يجب أن لا يزيد الإطار النقدي عن ٢٠٪.
الأسباب المعلومة والأساسية تنحصر في ثلاثة أبواب وهي:
الباب الأول: وهو التهرب الضريبي من قبل قطاعات الاقتصاد الفلسطيني، وهذا موضوع خطير يجب محاربته بكل الوسائل، خاصة في ظل غياب قدرة الحكومة على صرف الرواتب ودفع مستحقات القطاع الخاص وغياب أية نفقات تطويرية، مما يجعل هذا التهرب يرقى إلى جريمة كبرى بحق البلد تضعها فريسة للدعم الدولي المسيس.
الباب الثاني: هو توفير قناة لعمليات التهرب الضريبي وغسيل الأموال للسوق الإسرائيلي، وهذا أسوأ من الأول؛ حيث يتوجب علينا جميعا أن لا نكون بأي شكل قناة لأية عمليات غسيل أموال لأي سوق كان.
والباب الثالث: هو توفير قناة تبديل هذه الأموال إلى العملة الصعبة من خلال قنوات الصرافة بحيث يتم سحب العملة الصعبة من السوق الفلسطيني وإغراقه بالشيقل الإسرائيلي دون أي قيمة مضافة للاقتصاد الفلسطيني، مضافا إليها الكلفة المرتفعة لشحن الدينار والدولار من السوق الأردني. والجدير ذكره أن الخدمات المالية المقدمة من خلال المصارف ومحلات الصرافة في ترخيصها وجوهرها لتوفير البنية التحتية المالية للاقتصاد الفلسطيني وليس لأي سوق أو اقتصاد آخر.
ومن هنا يتوجب على كافة جهات الاختصاص ضبط العملة التي تدخل السوق الفلسطيني وخاصة الشيقل، ويمكن أن يتم ذلك من خلال:
أولا: قيام سلطة النقد بدورها بتوفير عملة الشيقل للصرافين وحظر أي عمليات استلام أو شحن من مصادر أخرى إضافة إلى ضبط تبديل عملة من الشيقل إلى العملات الصعبة إلا من خلال البنوك للمبالغ التي تزيد عن سقف معين لا يزيد عن 1000 دولار ووضع الضوابط الرقابية على الصرافين.
ثانيا: منع أي عملية إيداع نقدية للحسابات الفردية إلا في حدود ضيقة وضمن محددات الإفصاح عن مصادر الأموال، والتأكد من توفر وسائل الدفع الرقمية لدى كافة موردي السلع والخدمات.
ثالثا: منع أي عمليات بيع وشراء للأراضي والشقق والسيارات وأية عمليات كبيرة إلا ضمن التحويلات والشيكات البنكية ووسائل الدفع الإلكتروني ومنع البنوك من استقبال أية إيداعات من هذا القبيل.
رابعا: منع أية عمليات تسديد نقدية بين الناس إلى حدود ضيقة وبسقوف لا تزيد عن 10 آلاف شيقل.
إن هذه الإجراءات تضمن محاصرة النقد غير اللازم إلى النظام الاقتصادي وحمايته منه.
في المقابل وإذا كانت الدولة لا تستطيع فعل ذلك أو لا تريد فإنه من المنطقي الابتعاد عن عملة الشيقل وإخراجها من التعامل في فلسطين واعتماد الدينار والدولار واليورو كعملات بديلة ومنع استخدام الشيقل في الدورة الاقتصادية، وهو أمر ممكن جدا ويلغي كل مصادر الكاش غير المرغوب به.
ختامًا، فإن كل ما ذكرناه لا يعفي إسرائيل من مسؤوليتها عن ثلاثة أمور جوهرية تُعدّ أساسًا في تفجّر أزمة فائض الشيقل:
أولًا: أن على إسرائيل استقبال كافة الأموال الفائضة، باعتبار أن الشيقل هو عملتها، وهي المسؤول المباشر عنها، ولا يجوز التذرع بأي مبررات لرفض استقبالها.
ثانيًا: إسرائيل مسؤولة عن حجم النقد المتداول في السوقين الفلسطيني والإسرائيلي، وكان من المفترض بها تقليص هذا الحجم بشكل جذري، مما كان سيحدّ من ظهور الفائض أصلاً. إذ لا يُعقل أن يُترك نحو 60 مليار شيقل في السوق، ثم يُطرح لاحقًا الحديث عن "أموال سوداء" أو "غسل أموال". إن تقليص الكتلة النقدية عبر سياسات البنك المركزي الإسرائيلي من شأنه معالجة الأزمة من جذورها، بل وتعود فائدته على الاقتصاد الإسرائيلي قبل الفلسطيني.
ثالثًا: إن النقد الذي يدخل إلى الأراضي الفلسطينية مصدره إسرائيل نفسها، ولا يجوز لها أن تمتنع عن استقباله بذريعة "غسل الأموال"، بل تقع عليها مسؤولية مراقبة تدفق هذا النقد وتنظيم دخوله من منبعه، لا أن تتهرب من استحقاقات استلامه لاحقًا.