الحدث - سجود عاصي
21 شهرا، لم تتمكن حكومة الاحتلال فيها من إعلان نجاحها في تحقيق أهدافها المعلنة من الحرب على قطاع غزة والمتمثلة بالقضاء على حركة حماس وجناحها العسكري وإعادة الأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم المقاومة منذ السابع من أكتوبر 2023، رغم الإمكانيات المحدودة التي تمتلكها المقاومة الفلسطينية مقارنة بالتفوق العسكري الذي حظي به جيش الاحتلال بسبب دعم الولايات المتحدة له.
يتفق خبراء ومحللون على أن حكومة الاحتلال وجيشها ما كانا ليواصلا هذه الحرب لولا الدعم الأمريكي المباشر، إلى جانب إسناد سياسي وعسكري من عدد من الدول التي تزوّد جيش الاحتلال بالعتاد وتمنحه غطاءً دوليًا لاستمرار عدوانه، بالإضافة إلى الرغبة الجامحة لدى نتنياهو بإطالة أمد الحرب لظروف ذات صلة بالأزمات الداخلية الإسرائيلية ومحاولة البقاء في منصبه رئيسا لحكومة الاحتلال أطول فترة ممكنة وذلك بالتزامن مع جلسات المحكمة التي تنعقد بخصوص قضايا الفساد المتورط بها.
ورغم التسريبات والتصريحات لمسؤولين أمريكيين وإسرائيليين وكذلك قطريين ومصريين، عن قرب التوصل لاتفاق يقضي بوقف إطلاق النار في غزة؛ إلا أنه منذ اتفاق التهدئة الأخير لم يحدث أي تقدم يذكر في مباحثات وقف إطلاق النار في غزة، ولا تزال كل المؤشرات تشير إلى أن التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار يزداد تعقيدًا كلما تصاعدت الضغوط على الاحتلال داخليًا وخارجيًا؛ فالاحتلال الإسرائيلي يواصل عملياته العسكرية، متسلحًا برؤية سياسية ضيقة لا ترى في إنهاء الحرب إلا من بوابة "تحقيق الأهداف الكاملة"، بينما تصر المقاومة الفلسطينية على أن أي اتفاق يجب أن يضمن وقفًا دائمًا للعدوان وانسحابًا كاملاً من القطاع.
وفي ظل هذا الانسداد، يصبح استمرار الحرب انعكاسًا لفشل دولي في فرض الحد الأدنى من العدالة، ولعجز إقليمي عن بناء روافع ضغط فعالة، ولرهان الاحتلال على عامل الوقت والتدمير لإخضاع غزة؛ فكل جولة تصعيد جديدة تكشف أن الحرب لم تعد فقط صراعًا عسكريًا، بل أداة لتفكيك الكيان الفلسطيني، وتجريب أشكال جديدة من الحصار والتجويع الجماعي كانت آخرها سياسة القتل اليومي بحق منتظري المساعدات والمجوّعين، في محاولة لإخضاع الفلسطيني، في ظل تنصل المنظومة الدولية من مسؤولياتها، وإصرار الاحتلال على خوض معركة بلا نهاية ضد الفلسطينيين.
وبينما توقفت الضربات المتبادلة بين الاحتلال الإسرائيلي وإيران، بفعل تفاهمات غير معلنة، تُترك غزة لتواجه آلة الحرب المفتوحة، وما يظهر بوضوح هو أن الاحتلال الإسرائيلي يتعامل مع غزة باعتبارها "الساحة القابلة للاستثمار السياسي والأمني"، سواء لتصدير أزماته الداخلية أو لاستعادة ما يسميه "قوة الردع"، بينما يتجنب الانزلاق إلى مواجهة شاملة مع إيران، خوفًا من تداعيات إقليمية واقتصادية وأمنية يصعب ضبطها. هذا يعكس ازدواجية في سلوك الاحتلال الذي ينصب في عدوان مستمر على الفلسطينيين من جهة، وضبط للنيران مع القوى الإقليمية الكبرى من جهة أخرى.
كما أن التفاهم الضمني مع إيران ـ الذي جرى بوساطات دولية وإقليمية (عمان، الدوحة، واشنطن)، يكشف أن الاحتلال قادر على اتخاذ قرارات براغماتية، على خلاف ما يجري في غزة، حيث الغطاء الأمريكي، وانقسام الموقف الدولي، وتراخي الضغط العربي.
وتتمثل أبرز أهداف الحرب الممتدة منذ بدء الإبادة الجماعية في غزة، مرورًا بتصعيد المواجهة مع حزب الله في لبنان، ووصولًا إلى الضربات على إيران، في ما وصفه بنيامين نتنياهو مرارًا بـ"إعادة صياغة الشرق الأوسط".
ويرى محللون، أنه فيما لو سعت "إسرائيل" إلى اتفاق وقف إطلاق نار في الفترة الحالية، فهو لأخذ فترة هدنة (اتفاق مرحلي) خاصة بعد الحرب على إيران وعقب خساراتها الأخيرة في غزة وكذلك بسبب الصواريخ الإيرانية، بالإضافة إلى التوصل لاتفاق تبادل أسرى يفرج عن عدد من أسراها لدى المقاومة. ما يمكن نتنياهو من إعادة ترتيب أوراقه السياسية الداخلية.
يقول الكاتب والمحلل السياسي ومدير مركز القدس للدراسات في جامعة القدس، أحمد رفيق عوض، إن "إسرائيل" ليست في وارد التسوية مع قطاع غزة، التي أكد أنها مختلفة عن لبنان وإيران في حسابات الإسرائيليين، بمعنى أن الاحتلال الإسرائيلي يريد أن يصل إلى النهايات التي يطمح لها من إعادة احتلال قطاع غزة والقضاء على حركة حماس وتجريدها من سلاحها وإخراج قادة حماس من غزة.
الاتفاق مع حماس بمثابة اعتراف إسرائيلي بالهزيمة
وأضاف عوض في حديث خاص لـ "صحيفة الحدث"، أن الاحتلال الإسرائيلي ينظر لقطاع غزة على أنها تهديد حقيقي ليس فقط على "مشارفها"، تريد أن تنهي غزة كمشكلة مستمرة على مدار عقود سابقة وقادمة، و"إسرائيل" ليست في وارد التسوية مع حماس لأن أي عملية تسوية مع حماس هي عملية خسارة لـ "إسرائيل" وهزيمة لها.
وأوضح، أنه بعد 21 شهرا، تتورط إسرائيل عمليا أكثر فأكثر في قطاع غزة ولم تصل بعد إلى تحقيق أهدافها العلنية المتمثلة بالقضاء على حماس وإعادة الأسرى، وهذا فشل حقيقي بغض النظر عن أن غزة مدمرة وتعيش كارثة، لأن "إسرائيل" فعليا أهدافها لم تتحقق، ولهذا السبب فيما لو دخلت "إسرائيل" أي تسوية هي عمليا هزيمة لها، لذلك هي تماطل في التوصل إلى تسوية أو تعقد شروطها وتستمر في الحرب ولا تضع أفقا لوقفها، وبالنسبة لها ستستمر في الحرب حتى استسلام حماس، خاصة أن الاحتلال يرى في نفسه منتصرا في كل الجبهات إلا جبهة غزة وهذا ما يجعل التوصل إلى تسوية أمرًا بالغ الصعوبة.
وعن التصريحات الأمريكية التي تؤكد قرب التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة، رأى عوض أنها تفاؤل زائد عن الحاجة، وفق وصفه، وقال: عمليا ترامب يريد أن يقدم نفسه صانعا للسلام، وأي اتفاق بين الاحتلال الإسرائيلي وحماس حتى لو كان اتفاقا مرحليا إلا أن هذا الاتفاق يهمه، "والظروف لم تنضج بعد لتسوية، خاصة وأن ترامب هو من طرح فكرة ريفيرا غزة وطرد سكان غزة، لكن مقاومة غزة وأهلها لم ينصاعوا لذلك، فهو يروج لتسوية قريبة من أجل فكرة "ترامب صانع السلام العالمي".
وعن عدم إمكانية هزيمة المقاومة، يوضح الكاتب والمحلل السياسي أحمد رفيق عوض، أن المقاومة في غزة ليست دولة وليست جيوشا نظامية، وإنما هي عبارة عن أفكار وأشخاص يتحركون بشكل سريع ودائم ويظهرون في أي لحظة ووقت وحسب الظروف، وبالتالي لا يمكن القضاء على فكرة المقاومة، وهذه مشكلة كل احتلال، فالقوة لا يمكنها القضاء على المقاومة، التي تتكيف مع الأوضاع وتبدع في أساليبها وطرق الظهور والمقاومة والاشتباك.
ويردف: "إسرائيل" هدمت بيت حانون مرتين وخانيونس كذلك واحتلت وقصفت ودمرت، ورغم ذلك في كل مرة تخرج المقاومة في أداء مذهل، فالمقاومة حقوقها لا تسقط لا بالتقادم ولا بالقوة ولا بأي شيء آخر.
المقاومة تُربك حسابات الاحتلال الإقليمية والسياسية
بالمقابل، يرى الكاتب والمحلل السياسي محمد القيق، أن تصريحات ترامب الأخيرة بخصوص الحرب على غزة ومحاكمة نتنياهو؛ نقرأ من خلالها جدية لدى الأمريكي بوقف الحرب على غزة لأن نتنياهو إذا أوقف الحرب على غزة سيكون في مواجهة المحكمة وخوفه من انهيار تحالفه الحكومي، أما إذا أعطى ترامب نتنياهو ضمانات بأن هناك محاكمة ستلغى وانتخابات مبكرة وبالتالي لن يبقى تحت رحمة بن غفير وسموتريش، فهذا مؤشر باتجاه أن الأمريكي يريد إنهاء الحرب على غزة ويعطي إشارة على أن عربات جدعون فشلت فشلا ذريعا من الناحية السياسية والعسكرية معا، والميدان يبدو أنه يشي بأن حالة الاستنزاف تغرغرت أكثر في الجيش وليس كما يصور قادة الجيش، فالموضوع أعمق بكثير من ذلك بالتزامن مع التأكيد على أن خطة البديل واليوم التالي في غزة لن تكون إلا فلسطينية وأن الحرب في غزة بددت طموح الإسرائيليين والأمريكيين في ظل عدم وجود أفق.
وأكد القيق في مقابلة خاصة لـ "صحيفة الحدث"، أنه فيما لو استمرت الحرب على إيران أو ما قبلها، كانت التوقعات تشير إلى استحالة التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار، ولكن بعد الحرب على إيران ومن تداعياتها وفشل الاحتلال في تنفيذ مخططه الإقليمي، يرى القيق، أننا قريبون جدا من اتفاق وقف إطلاق نار مع غزة وهذا يعتمد على تجاوب المعارضة الإسرائيلية مع ترامب في المحادثات السرية بشأن إلغاء محاكمة نتنياهو.
وأوضح القيق، أن لدى نتنياهو وطاقمه مشكلة تتمثل بالتصريحات، فحينما أطلق وعوده بإنهاء النظام الإيراني وإنهاء المفاعل النووي والصواريخ الباليستية، فإنه لم يحقق أيا من هذه الأهداف، وهذه التصريحات العالية مردودها سلبي على العقلية الإسرائيلية، بالفشل في تحقيق الأهداف، وهدفه بتغيير وجه الشرق الأوسط لم يكن إلا بداية لتغيير وجه تل أبيب، وهذا انعكس على المعارضة وحتى على معسكر نتنياهو، أي أن التصريحات أصبحت فوق سقف الواقع، وباتت هناك فجوة كبيرة بين سقف جيش الاحتلال العسكري وسقف نتنياهو السياسي، فيما يتعلق كذلك بالحرب على غزة.
وتدلّ مجريات الحرب على غزة، بعد مرور أكثر من عشرين شهرًا، على أن الاحتلال الإسرائيلي يتخبّط في مآزق متراكمة، داخليًا وخارجيًا، سياسيًا وعسكريًا، ولم يعد قادرًا على إنتاج "نصر" يُسوّقه لجمهوره، رغم الدمار الهائل الذي ألحقه بالقطاع وسكانه. فقد تحولت غزة إلى مرآة تعكس حدود قوة الاحتلال لا اتساعها، وفشله في إخضاع إرادة مقاومة متجذرة، برزت بقوة رغم الحصار والتجويع والقصف.
وبات واضحًا أن الاحتلال يُدير هذه الحرب بلا أفق سياسي، في محاولة للهرب إلى الأمام، والاستثمار في زمن الحرب كوسيلة لتعليق أزماته الداخلية، لا سيما أزمة قيادة نتنياهو ومصيره القضائي. غير أن الحرب طالت أكثر مما تحتمل آلة الاحتلال نفسها، مما أوجد شرخًا بين مستوياته السياسية والعسكرية، وبين الأهداف المُعلنة والواقع الميداني الذي يفرض وقائعه ببطء.
وفي المقابل، فرضت المقاومة الفلسطينية، رغم الإمكانيات المتواضعة، معادلات جديدة في الصراع، وأكدت استحالة الحسم العسكري، وأعادت التأكيد على أن غزة ليست مجرد "جبهة"، بل معقل صمود سياسي وشعبي وفكري، قادر على إفشال مشاريع الاحتلال ومخططاته، ولو بعد حين. وبينما تُغلق النوافذ أمام الحلول المفروضة بالقوة، يبقى صوت غزة شاهدًا على فشل منظومة دولية اختارت الصمت، وعجز نظام إقليمي لم يتجاوز التنديد.
كما تُثبت هذه الحرب، بكل ما تحمله من آلام وتحديات، أن القضية الفلسطينية عصية على الكسر، وأن الشعب الفلسطيني، في غزة وسواها، ما زال يُعيد تعريف معنى المقاومة، والحق، والكرامة، في زمن تتهاوى فيه المعايير، فكل جولة قصف تُعيد ترسيخ أن غزة ليست "الساحة الأضعف"، بل خط المواجهة الأول، وحصن الصمود الأخير في وجه مشاريع التصفية والتطبيع والتفكيك.