في شارع ضيق مغطى بالغبار، تجلس أم محمود على كرسي بلاستيكي مكسور، تفرز أكياس العدس والبرغل التي نجت من القصف، بيدها اليمنى تزن الكيس على ميزان قديم، وباليسرى تمسح العرق عن جبينها. لم تتعلّم في مدرسة اقتصاد، لكنها تدير ميزانية الحي. تعرف من يحتاج رغيف الخبز اليوم، ومن يمكنه الانتظار حتى الغد.
في فلسطين، حين تنهار القيم ويلغى مفهوم العدالة، وتصبح المساعدات رهينة المزاج السياسي، وتغلق المعابر بقرارات عسكرية، يظهر نمط اقتصادي لا تعترف به البنوك ولا تذكره تقارير وتحليلات خبراء المال والاقتصاد، إنه ما يسمى ب " اقتصاد البقاء " (Survival Economy) ،غالبًا ما تقوده النساء في الأزمات.
النجاة وسط الركام: كيف تصنع النساء اقتصاد الحياة حين ينهار كل شيء.
هذا الاقتصاد ليس اختيارًا، بل واجب للبقاء على الحياة، النساء فيه يحوّلن غرفة المعيشة إلى مخزن طوارئ، ويحكن البطانيات القديمة لتصبح ملابس للأطفال، ويفتحن مطابخ الحي لإطعام الجميع. في غياب الكهرباء، يبتكرن الطهي على مواقد الحطب، وفي غياب الدواء، يصنعن وصفات من الأعشاب.
لكن المفارقة أن هذا الاقتصاد الذي يبقي المجتمع على قيد الحياة ، غير مرئي في السياسات الرسمية، وخطط التعافي التي تتحدث عن "إعادة الإعمار" و"الاستثمار الأجنبي" ، بينما الحقيقة أن النساء أنشأن نظامًا اقتصاديًا موازياً يسبق أي مشروع خارجي، ويستمر بعد أن يرحل المانحون.
اقتصاد البقاء كأداة مقاومة اقتصادية.
الدور المزدوج: النساء لا يقدمن الإغاثة فقط، بل يخلقن أنظمة توزيع وتخزين وإنتاج صغيرة النطاق. ولا تقتصر مساهمة النساء في الأزمات على تقديم الإغاثة المباشرة، بل يمتد دورهن إلى ابتكار أنظمة توزيع وتخزين وإنتاج صغيرة النطاق، تدعم الأمن الغذائي وتخفف الضغط على الأسواق المحلية، خاصة في حالات الحصار والنزاع. وقد وثّقت هيئة الأمم المتحدة للمرأة (Rapid Gender Analysis: The Situation in Gaza, 2023) هذه الأدوار، مشيرةً إلى أن النساء يقمن بإنشاء شبكات مجتمعية غير رسمية لإدارة الموارد وضمان وصولها إلى الفئات الأكثر هشاشة.
الأثر الاجتماعي: أنشطة الإعالة المجتمعية في حالات الحصار أو النزاع تُدار من قبل النساء، ومعظمها خارج السوق الرسمي.
UN Women تقرير “Rapid Gender Analysis: The Situation in Gaza” (أكتوبر 2023) الصادر عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة، يوضح أن النساء يشكلن ما بين 70-80% من القوى التي تدير أنشطة الإعالة المجتمعية في حالات النزاع والحصار، وغالبًا في القطاع غير الرسمي.
الأمن الغذائي: الحدائق المنزلية التي تديرها النساء في غزة والضفة توفر في الأزمات ما بين 25–40% من احتياجات الأسر الغذائية.
منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO): تقرير “Home and Community Gardens in the West Bank and Gaza Strip” (2021) يوضح أن الحدائق المنزلية التي تديرها النساء توفر 25–40% من الاحتياجات الغذائية للأسر في أوقات الأزمات.
إعادة تعريف الاقتصاد الوطني
لماذا لا يتم الاعتراف بهذا النمط كإستراتيجية مقاومة اقتصادية؟ ولماذا لا تتحول شبكات النساء إلى جزء من التخطيط الوطني بدل أن تُترك في الظل؟
تَبَنّي اقتصاد البقاء ليس مجرد استجابة طارئة، بل هو إعادة تعريف لفكرة الاقتصاد الوطني من منظور الناس، لا المؤشرات المالية. اقتصاد يقيس نجاحه بعدد الأرواح التي تنجو، لا بعدد الأبراج التي تُبنى.
وأم محمود… ما زالت تجلس في شارعها، تزن العدس وتوزع الخبز، دون أن تدري أنها تمسك بيدها خيط النجاة لبلد بأكمله.