في الوقت الذي تتكاثر فيه الأصوات وتتناسل من بطنٍ ولودة، حول موضوع المفاوضات وما آلت إليه، والحديث عن مخاضات عسيرة كلها لم تنجب شيئًا حتى الآن، إلا أنَّ كثيرًا منّا استولدَها جِمالًا وفئرانًا وعمالقةً وأقزامًا، وصار الكلُّ محلّلًا إلا المحلّلين، وراحت الصفحات الرسمية والشعبية والحزبية والأهليةُ تتلاسنُ حول موضوع (من سيحكم؟) واليوم التالي، والكل يدّعي أنه يعرف، ولو تأنّينا قليلًا لخرجنا كلُّنا بلا معرفة، ولكن على الأقل بشيءٍ من ماء الوجه المراق، الذي ينزفُ أبدًا، "وكأنه من كُلًى مفريَّةٍ سَكِبُ".
يرى البعض أنَّ الحقّ الشرعي والقانوني والرسمي والدولي والشعبي لمن أنه من المفترض أن يحكم غزة، هم أهلها؛ أي من كانوا فيها، وعاشوا فيها ولها وعليها، وأنَّ أول من استلم الحكم فيها بموجب اتفاقيات دولية هي السلطة الوطنية الفلسطينية، هذا الرأي تقدمه بعض الجهات الدولية العربية والغربية، ويرى فيه البعض تسويقًا للسلطة، ويرى آخرون أنَّ الذي حدث بعد عام 2007، كان السبب في المآلات الصعبة التي خلقت تداعيات عدة، إذ انتهى الأمر إلى حدِّ الانفصال، ولم تنجح عشرات، بل مئات الدعوات والمؤتمرات والجلسات والاتصالات في رأب الصدع الذي ما كان يجب أن يكون، وفي هذه الحالة فإنَّ القائمين على السلطة يقولون بأنَّ السلطة الفلسطينية ظلت تفي بواجباتها تجاه الأهل في غزة، وتقدم كل ما يلزم للموظفين الذين كانوا يعملون في صفوفها قبل الانقسام، أو -(الانقلاب) كما يسميه البعض- وفي الجهةِ المقابلة، يرى طرفٌ آخر أنَّ من قادوا الانقلاب، شكّلوا حكومتهم التي أعطاهم إياها الشعب بعد الانتخابات التشريعية التي فازوا بها، وحصلوا على أصوات الشعب، وكان ذلك تفويضًا رسميًّا وشعبيًّا، وقد سلَّمهم رئيس السلطة الفلسطينية مفاتيح الحكومة، فلم يقبلوا بهذه الشرعية، وأعلنوا عن تمردهم الذي أوعزوا أسبابه لمضايقات ومؤامرات كونية، وحسابات داخلية وخارجية، وبكل تأكيد كانت الحسابات الخارجية أرجح، وصار ما صار. هذا الرأي يواجهه رأيٌّ آخر معاكس تمامًا، ويرى أنَّ الحكومة حوصرت ولم يُفتح عليها أي باب، كل ما سبق من آراء قد يكون فيه الصواب والخطأ، وقد يكون ذلك قابلًا للنقاش قبل المأساة، لكنَّ الأمور بعد الحرب الأخيرة تغيرت كثيرًا، وأصبح من المهم طيُّ كل تلك الصفحات الماضية، والوقوف بوجهٍ واحدٍ، وبذاكرةٍ نظيفةٍ تبدأ الكتابة على صفحاتها من اللحظة الصفر، لا لنسيان المأساة، بل لتجاوز تداعياتها، وإيقاف البكاء الممزوج بالدم المقدس، بغضِّ النّظر عن الجدال الدائر الآن (من سيحكم من).
الناس ينشغلون بأمورٍ على عظمتِها باتت تافهة أمام مشاهد الموت والدمار والمجازر، والموت الرجيم والرحيم، فمن لم يمت بالسيف مات بغيره، ومن لم يمت بالجوع مات برصاص اللصوص، فأشكال الموت متعددة، والمشاهد ذاتها، والناسُ في كلِّ أرجاء الدنيا انسلّوا من الحكاية، وكأنهم خرجوا من جلدِ غزة ولحمها ودمها وملحها وبحرها وفلفلها الحار، وتركوا الخلق للخالق، وقد ذهب الناس بالشاةِ والبعير، وآبَ أهلُ غزةَ بدمائهم وأحزانهم، ونحن اكتفينا بالجدل البيزنطيّ، هذا لنا وذلك لكم، وأطفال غزةَ لا عزاءَ لهم.
بكل تأكيد لا يفكرُ الأطفال الأيتام والثواكل والقاعدون والمُقعدون، والفاقدون والمفقودون بمن يحكم في هذه الأيام، وإنما جُلُّ تفكيرهم بأن يجدوا لُقمةً طريّةً أو يابسةً تحرّك أمعاءهم الذاوية، وتنفث حياةً في بيوتهم الخاوية، وأن يجدوا أسماءهم كاملةً في سجلِّ الحياة، لا في دفاترِ الأموات، أما إن تقاتل الإخوة أو تخاصموا، ومن شتَمَ فلانًا واتهمه بالحرمنةِ أو العمالةِ أو غير ذلك، فهذا لا يهم. وإن طال الحديث عن الحاكم والمحكوم، فقد نجد الأول، ولا نجد الثاني، فما الذي تبقّى من تلك الأرض؟ ولماذا يُشار لها على أنها جزءٌ خارج عن هذا الكوكب، ولماذا يقبل القادةُ بالجدلِ في هذا الأمر، ولو عاد كلُّ طرفٍ إلى صوابه، لوجد أنَّ الأمرَ سهل، فمن يقبله أهل تلك البقعة المحروقة، فليكن، وليقف شلال الدم أولًا.
هذه الأسئلة المؤجلة تستدعي التفاتًا إلى الذات، وإعادة تقييم للمشهد بما يكفل صونًا للحياة، وحقنًا للدماء، وهذا يتطلّبُ لُحمةً وطنيّةً لا لَحمةً مُعلّبةً بتواريخَ فاسدة، فكل الأطراف التي جاءت بأفكار دخيلة من الخارج، قلبت المعادلات، ولم يقدم أي مشروع خيرًا للوطن، بل كانت الرهانات خاسرة، وبعد أن احترق الأخضر واليابس، لا بدَّ أن نبحث عن بقايا زهرةٍ تحت أكوامٍ من الشوك، لعلَّ الله يُحدثُ بعد ذلك أمرًا.