الجمعة  04 تموز 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الجداريات السياسية الفلسطينية في برلين: مقاومة بصرية في مواجهة القمع العابر للحدود

2025-07-04 08:51:45 AM
الجداريات السياسية الفلسطينية في برلين: مقاومة بصرية في مواجهة القمع العابر للحدود
مظاهراات في برلين

متابعة الحدث

في قلب مدينة برلين، وعلى جدرانها التي شهدت انقسام العالم ذات يوم، تتشكل سردية مقاومة أخرى، تنسجها أيادي لاجئين فلسطينيين يسكنون الهامش ويصرّون على البقاء. الجداريات السياسية الفلسطينية التي تملأ الشوارع، خاصة في حيّ نويكولن وشارع زوننآليه، لم تعد مجرد رسومات عابرة، بل تحولت إلى فضاء حي للصراع على الذاكرة، والهوية، والرواية. في بلدٍ يرفع شعار حرية التعبير لكنه يقمع كل من يجرؤ على التشكيك في قداسة الرواية الصهيونية، تصبح هذه الجداريات صوتًا للفلسطينيين الذين لا صوت لهم في المجال العام.

تتناول الباحثة هديل هارون لوز في دراستها المعمّقة "الجداريات السياسية الفلسطينية في برلين: مقاومة بصرية في مواجهة القمع العابر للحدود"، كيف تُنتج الجدران لغة مقاومة بديلة، تتحدى السياسات الألمانية التي تساوي بين التضامن مع فلسطين ومعاداة السامية. من خلال عمل ميداني امتد لتسعة أشهر، ترصد الكاتبة كيف يتحول الفن العفوي إلى أرشيف بصري جماعي، يوثّق معاناة اللجوء، ويعيد تشكيل المكان كمساحة مقاومة. في زمن تُحاصر فيه الهويات وتُصادر فيه الروايات، تؤكد هذه الجداريات أن النضال الفلسطيني لا يزال حيًا، لا على الأرض فقط، بل أيضًا على جدران المنفى.

تقدم هديل هارون لوز في دراستها "الجداريات السياسية الفلسطينية في برلين: مقاومة بصرية في مواجهة القمع العابر للحدود"، خلفية عامة عن الشتات الفلسطيني وتحديدًا أوضاع اللاجئين الفلسطينيين هناك. توضح الكاتبة أن 77 عامًا من التهجير القسري والاقتلاع الاستيطاني أدت إلى تشتت الفلسطينيين في بقاع الأرض. وبينما بقي نصف الشعب الفلسطيني داخل الوطن تحت أنظمة قانونية متعددة من الاحتلال والمواطنة الجزئية، يعيش ملايين الفلسطينيين في الشتات، كثير منهم في ظروف اللجوء أو انعدام الجنسية.

تشير الكاتبة إلى أن ألمانيا أصبحت وجهة مركزية للاجئين الفلسطينيين، خاصة بعد حروب المنطقة مثل الحرب الأهلية اللبنانية وحرب الخليج. في هذا السياق، تستعرض معاناة الفلسطينيين في ألمانيا من التهميش والتمييز القانوني والاجتماعي، وتوضح أن دراستها تستند إلى تسعة أشهر من العمل الميداني لفحص كيفية استثمار الفلسطينيين للغرافيتي السياسي كأداة مقاومة، في مواجهة قمع الدولة الألمانية وسياستها المزدوجة إزاء الفلسطينيين وقضيتهم.

 

تصف هديل هارون لوز مشهدًا ميدانيًا حيويًا من مقهى عربي في شارع زوننآليه، حيث التقت بأحمد، لاجئ فلسطيني شاب يعمل نادلًا. ينشأ حوار بينهما حول الرموز الثقافية مثل الخريطة الفلسطينية المطرزة وخاتم مفتاح العودة، ما يسلط الضوء على كيفية بناء الهوية في المنفى عبر الثقافة المادية. تتقاطع هذه اللحظة مع مرور تظاهرة تطالب بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، فيخرج أحمد ليحيّي أصدقاءه من المنظمين. تسرد الكاتبة التوتر القائم في هذه اللحظات، حيث حتى التظاهرات الصغيرة تحتاج لتصاريح مسبقة، وغالبًا ما تواجه بقمع بوليسي شديد بذريعة محاربة معاداة السامية. يُظهر المشهد كيف تتداخل الحياة اليومية مع الفعل السياسي في حياة اللاجئين، وكيف أن الجداريات والشعارات والرموز تصبح أدوات أساسية لمقاومة القمع وصناعة المعنى في فضاء يُراد لهم أن يظلوا صامتين فيه.

تُبرز الكاتبة أهمية شارع زوننآليه كفضاء ثقافي وسياسي للفلسطينيين في برلين. تصفه بأنه "الشارع المقاوم"، حيث تعيش الجالية حياتها اليومية وتخوض معركة الصمود من خلال المتاجر، والمطاعم، والجداريات. ورغم محاولات الشرطة قمع المظاهر السياسية عبر المداهمات والمنع، يصرّ الفلسطينيون على تحويل هذا الشارع إلى امتداد رمزي للوطن. تسرد الكاتبة تفاصيل رمزية مثل لافتة "فلسطين حرة" المعلقة تحت اسم الشارع، ومفتاح العودة المرسوم على الجدران، وتوضح كيف تصبح هذه الرموز وسيلة لإعادة صياغة المكان بوصفه مساحة للوجود والمقاومة رغم القمع.

تفرق الكاتبة بين الغرافيتي السياسي و"فن الشارع" المقبول مؤسسيًا. تؤكد أن الغرافيتي الفلسطيني في برلين هو عمل احتجاجي عفوي، غير مصقول، موجه لنقل رسائل سياسية مباشرة، لا للفن أو الجماليات. تعتبر الكاتبة هذه الجداريات "مواد خارج مكانها" وفق تعبير ماري دوغلاس، لأنها تقاوم النظام الجمالي المفروض، وتثير الغضب لأنها تعبر عن رفض مستمر للترتيبات السياسية والاجتماعية. وتشير إلى أن هذه الجداريات تصنع "جمهورًا مضادًا"، حيث تصبح الجدران مساحات رد فعل وتحدٍّ للسرديات الرسمية المهيمنة.

توضح هديل هارون لوز أن الغرافيتي الفلسطيني في برلين لا يمثل مجرد تعبير بصري عابر، بل هو مساحة رد فعل حي على محاولات محو الهوية الفلسطينية. تؤكد أن كل محاولة لمحو هذه الجداريات أو طمسها تخلق فعلًا جديدًا من المقاومة. وتوضح الكاتبة كيف تصبح الجدران موقعًا لصراع رمزي بين الفلسطينيين الذين يكتبون رسائلهم وبين الدولة أو معارضيهم الذين يسارعون لمحوها أو تشويهها. تسرد أمثلة مثل تحويل عبارة "فلسطين حرة" إلى "فلسطين حرة من حماس" أو "من الإسلام"، ما يعكس التوتر الأيديولوجي المستمر في الفضاء العام. ترى الكاتبة أن هذا التفاعل المستمر يؤكد قوة الغرافيتي كخطاب جماعي مضاد، يعبر عن تمسك الفلسطينيين بحقوقهم ويرفض الروايات التي تحاول شيطنتهم أو نزع الشرعية عن مقاومتهم.

 

تتناول الكاتبة بشكل موسع دور شبكة صامدون في إنتاج الجداريات والملصقات السياسية في برلين، والتي باتت هدفًا مباشرًا لحملات الملاحقة والمنع من السلطات الألمانية. تشير إلى أن هذه الملصقات تركز على قضية الأسرى، مقاومة الاحتلال، وربط القضية الفلسطينية بالنضالات العالمية ضد العنصرية والرأسمالية. تسلط الضوء على شعارات مثل "من برلين إلى فلسطين: عاشت التضامن الأممي"، ورسوم مثل صورة الشهيد باسل الأعرج حاملاً سلاحه. تؤكد أن قمع هذه الملصقات لا يلغي أثرها، بل يضاعف قوتها الرمزية، إذ كل ملصق ممزق أو مشطوب يصبح شاهداً إضافياً على الصراع القائم. تنقل الكاتبة شهادات من أعضاء صامدون، يصفون كيف أن كل محاولة لمحو هذه الرسائل تؤكد استفزازها للخصوم، وتظهر كيف تصبح الجداريات موقعاً يومياً لمواجهة مستمرة بين روايات المقاومة ومحاولات الطمس.

تحلل الكاتبة كيف أصبحت ذكرى الهولوكوست في ألمانيا أداة سياسية لتبرير القمع الممارس ضد الفلسطينيين. توضح أن الدفاع غير المشروط عن إسرائيل أضحى جزءًا من هوية الدولة الألمانية الحديثة، ما جعل أي نقد لإسرائيل يُصنف ضمن معاداة السامية. تستعرض كيف تم تضمين شرط الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود ضمن قوانين التجنيس، وكيف تُستخدم هذه الشروط لاستبعاد الفلسطينيين وإقصاء خطابهم. ترى الكاتبة أن هذا الإطار يشرعن سياسات الترحيل، منع التظاهرات، وقمع الفعاليات الثقافية، ويحوّل كل تعبير عن التضامن مع فلسطين إلى جريمة. تعتبر أن هذا النهج يعكس تناقضاً عميقاً بين ادعاء الدولة الألمانية الدفاع عن حقوق الإنسان وممارستها سياسات عنصرية تعيد إنتاج التراتبية الاستعمارية.

تصف هديل هارون لوز الجداريات الفلسطينية في برلين بأنها ليست فقط أداة احتجاج، بل هي بمثابة أرشيف حي للمقاومة المتجددة. توضح أن هذه الجداريات تحمل ذاكرة النكبة، والحق في العودة، ومعاناة الأسرى، وتجددها المستمر في وجه المحو يجعلها رمزًا لصمود الفلسطينيين. تسلط الضوء على رموز مثل حنظلة ومفتاح العودة، وكيف أصبحت هذه الأيقونات جزءًا من المشهد الحضري في برلين، تؤكد على الارتباط العاطفي والسياسي المستمر مع الوطن. وترى الكاتبة أن هذا الأرشيف البصري يفضح تناقضات الدولة الألمانية، ويكشف كيف يتحول الفضاء العام إلى ساحة صراع بين سردية الاستعمار وسردية التحرر.

ترصد الكاتبة آثار سياسات القمع الألمانية على الفلسطينيين في حياتهم اليومية. تقدم شهادات لشبان ونساء فلسطينيين يعيشون حالة مستمرة من الخوف بسبب المراقبة، منع التظاهرات، والملاحقة القانونية. تنقل مشاعر القهر والاغتراب التي يشعر بها الفلسطيني عندما يُحرم من أبسط حقوقه في التعبير أو يُمنع حتى من إعلان هويته. تسرد تجربة طالبة فلسطينية تعرضت للتوبيخ لأنها عرفت عن نفسها كفلسطينية في المدرسة. كما تنقل شعور البعض بأن وجودهم في برلين محفوف بالتهديد المستمر، حيث يتحول كل تعبير عن التضامن مع فلسطين إلى سبب محتمل للملاحقة أو الترحيل، ما يعزز حالة القلق والانفصال عن المجتمع.

تركز الكاتبة على الصراع القائم في المشهد الحضري لبرلين، حيث تتحول الجدران والشوارع إلى مواقع مواجهة بين الروايات المختلفة. توضح كيف ينزعج المعارضون للفلسطينيين من الرموز الوطنية مثل الكوفية أو العلم الفلسطيني، فيبادرون إلى تمزيق الجداريات أو طمسها. في المقابل، يصر الفلسطينيون على إعادة رسمها وكتابتها. تشير الكاتبة إلى أن هذا الصراع الرمزي يكشف عمق الأزمة في الرواية الألمانية الرسمية، التي تسعى لإقصاء الرواية الفلسطينية من المجال العام، بينما يصر الفلسطينيون على فرض وجودهم من خلال الكتابة على الجدران، ورفض محاولات إسكاتهم.

تُبرز هديل هارون لوز في دراستها أن الغرافيتي الفلسطيني في برلين لا يؤدي فقط دورًا محليًا في تأكيد الهوية والوجود الفلسطيني في فضاء المدينة، بل يتجاوز ذلك ليصبح أداة للتضامن العابر للحدود. ترى الكاتبة أن الشعارات والرموز المنقوشة على الجدران، مثل "من برلين إلى فلسطين: عاشت التضامن الأممي"، أو رسومات الشهداء والأسرى، تحمل رسائل واضحة تربط بين النضال الفلسطيني وحركات التحرر ومناهضة العنصرية في العالم. وتوضح الكاتبة أن هذه الجداريات لا تُخاطب فقط الفلسطينيين أو العرب، بل تطرح خطابًا أمميًا يستدعي التفاعل من مختلف الحركات المناهضة للعنصرية، والرأسمالية، والاستعمار.

تلفت الكاتبة إلى أن برلين، بتاريخها كمدينة منقسمة سابقًا ومساحة غنية بثقافة الغرافيتي، توفر بيئة خصبة لهذا النوع من الرسائل، ما يعزز من حضورها وتأثيرها. كما تؤكد أن محاولات الدولة الألمانية قمع هذه الجداريات لا تُضعفها، بل تزيد من بعدها الرمزي كأداة مقاومة عابرة للحدود، وكأن كل عملية طمس أو محو تتحول إلى صدى إضافي لهذه الرسائل. وفي هذا الإطار، يصبح الغرافيتي وسيلة للتأكيد على أن النضال الفلسطيني ليس معزولًا، بل هو جزء من معركة أوسع ضد البنى الإمبريالية والاستعمارية، وهو ما يظهر في التشبيك مع حركات مناهضة العنصرية في أوروبا، وحملات دعم الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، والنضالات الشعبية في أمريكا اللاتينية.

تختم هديل هارون لوز دراستها بالتأكيد على أن الجداريات الفلسطينية في برلين، رغم قمعها ومحوها المستمر، تظل أداة قوية للمقاومة والتعبير عن الذات. ترى أن هذه الجداريات تكشف تناقضات الخطاب الألماني حول حقوق الإنسان، وتفضح عنصرية الدولة المقنعة بادعاءات مكافحة معاداة السامية. وتشير إلى أن هذه الجداريات، رغم محدودية تأثيرها على السياسات العامة، تظل وسيلة أساسية لتأكيد الوجود الفلسطيني، وإبقاء قضيته حاضرة في الفضاء العام، وتشكيل أرشيف بصري يعبر عن رفض الطمس والاستعمار، ويمثل رابطاً بين النضال المحلي والعابر للحدود.

 

وتشير دراسة هديل هارون لوز إلى أن الجداريات الفلسطينية في برلين تتجاوز كونها تعبيرًا بصريًا عن الهوية، لتتحول إلى فعل مقاومة يومي ضد محاولات الإقصاء والمحو في المنفى. فهي تسجّل وجود الفلسطينيين في الفضاء العام رغم القمع، وتعيد تشكيل المدينة كمساحة نضال عابرة للحدود، تربط بين الشتات والنكبة، وبين برلين وفلسطين. في وجه السياسات الألمانية التي تصادر الحق في التعبير وتُقنّن الرواية الصهيونية باسم معاداة السامية، تصبح هذه الجداريات أرشيفًا حيًا للكرامة، وموقعًا للصراع الرمزي والسياسي مع سرديات الاستعمار. إنها تُثبت أن الفلسطيني، حتى وهو ملاحق ومراقب، لا يزال قادرًا على الكتابة على الجدران، وعلى تذكير العالم أن قضيته لا تزال هنا، لا تُمحى.