في خضمّ التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعصف بفلسطين، تلوح فكرة الاقتصاد التعاوني كأداة استراتيجية لتعزيز الصمود المجتمعي وتحقيق العدالة الاجتماعية. لكنّ التعاونيات، في جوهرها، ليست مباني أو قوانين، بل "روح" تتجسّد في أفراد مؤمنين بالفكرة ومدرَّبين على ممارستها، وهذا ما لخصه المفكر العربي الدكتور حسنين كشك بقوله: (أعدّوا التعاونيين قبل التعاونيات).
واليوم، مع اعتماد الأمم المتحدة لعام 2025 كسنة دولية للتعاونيات، واحتفاء العالم باليوم الدولي للتعاونيات تحت شعار (قيادة الحلول الشاملة والمستدامة لعالمٍ أفضل) تُفتح نافذة جديدة لإعادة التفكير جذريًا في دور التعاونيات الفلسطينية.
"بينما العالم يسعى لبناء التعاونيات، يدعونا كشك - ونُضيف من فلسطين - إلى ما هو أعمق: بناء الإنسان التعاوني، ففي أرض تُصارع الاحتلال والانقسام، لا يكفي أن نُؤسس تعاونيات بل يجب أن نُؤسس لعقلية تعاونية، فبغير التعاونيين، لا قيمة للتعاونيات".
ما بين الفكرة والواقع: أين نحن في فلسطين.
في فلسطين، حيث التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية معقدة، تتطلب النهضة التعاونية فهماً عميقاً لمفهوم التعاون الذي لا يقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يتعداه إلى بناء الإنسان التعاوني القادر على المشاركة الفاعلة في تطوير مجتمعه. ورغم وجود الكثير من التعاونيات المسجّلة في فلسطين، وتعدد الأطر التعاونية (خاصة الزراعية والنسوية)، لا تزال التجربة متعثرة في كثير من جوانبها، كثيرًا منها يعاني من تأسيس شكلي دون قاعدة قيمية أو تدريبية، ضعف التمثيل الحقيقي للنساء والشباب وغياب الحوكمة والشفافية، وارتباط مصطنع بالممولين بدل الارتباط بالحاجة المجتمعية.
التجربة الفلسطينية تعاونيات بلا تعاونيين؟ لماذا يفشل البعض رغم توفر البنية القانونية؟ .
(كشك: التعليم القيمي قبل المهارات يرى كشك أن أي عمل تعاوني يجب أن يبدأ من الإنسان. فقبل التفكير في التمويل والإنتاج والتسويق، لا بد من زرع قيم التعاون. المسؤولية المشتركة الشفافية التواضع في القيادة التوزيع العادل للعائد وقال أيضًا إن "التعاونية هي مدرسة للمواطنة"، تُعلّم الأفراد احترام القانون، والعمل الجماعي، والاعتماد على الذات لا على الدولة أو المانحين).
ماذا يعني "إعداد التعاونيين" في السياق الفلسطيني؟.
في وقت تتزايد فيه الدعوات نحو الاقتصاد التضامني كأداة لتحسين سبل العيش، لم تعد إقامة التعاونيات مجرّد قرار تنظيمي أو مبادرة مشاريع تنموية؛ بل أصبحت ضرورة وجودية في السياق الفلسطيني المعقد سياسيًا واقتصاديًا. ومع ذلك، فإن الإخفاق في إعداد الإنسان التعاوني لا يزال التحدي الأكبر الذي يعوق نجاح هذه المبادرات.
الدكتور حسنين كشك، أحد رواد الفكر التعاوني في العالم العربي، لخّص هذه الإشكالية بجملة بليغة: (أعدّوا التعاونيين قبل التعاونيات) ، هذه العبارة لم تكن شعارًا بل دعوة ثورية لإعادة ترتيب الأولويات.
وهنا يُطرح السؤال الكبير: هل لدينا تعاونيون حقًا أم فقط هياكل تعاونية؟
تظل الفرصة كبيرة لاستثمار العمل التعاوني كأداة للتمكين الاقتصادي والاجتماعي في فلسطين، خصوصًا إذا ما تم تعزيزها بتوجهات استراتيجية واضحة تستند إلى بناء القدرات، والتشريع الملائم، والإدارة الرشيدة.
يمكن الاستناد والاستلهام من النموذج الأردني، حيث يقدّم الأردن نموذجًا يحتذى به في تطوير منظومة تعاونية متكاملة، تجمع بين دعم سياسي وتشريعي واضح (قانون التعاونيات 2025). مأسسة التدريب من خلال معهد التنمية التعاوني. تمكين النساء والشباب في عضوية المجالس. والانخراط الدولي من خلال التحالف التعاوني الدولي (ICA)، فعاليات مجتمعية تربط التعاون بالتنمية المحلية (مثل زراعة الأشجار، وتنظيف الشواطئ). هذه الخطوات توفّر دروسًا ثمينة لفلسطين، خصوصًا فيما يتعلق بربط الفكر التعاوني بالتشغيل، البيئة، التعليم، والحكم الرشيد.
ما الذي كان ليقوله كشك لو رأى واقعنا؟. د. كشك لطالما حذر من جعل التعاونية مجرد أداة للتمويل الخارجي أو واجهة للعلاقات العامة، بل نادى بـ: تعليم تعاوني يبدأ من المدرسة، وقيادة تعاونية نابعة من القاعدة لا مفروضة من الأعلى، ونموذج مجتمعي يُعلي القيم لا الأشكال، ولهذا فإن الاستثمار الحقيقي ليس في "بناء التعاونيات" بل في "بناء التعاونيين".
نحو نموذج فلسطيني أصيل: خارطة طريق مقترحة.
في فلسطين، يمكن أن تشكل التعاونيات دعامة حيوية لاقتصاد محلي مقاوم، يعزز من الاستقلالية الاقتصادية ويخلق فرص عمل حقيقية للشباب والنساء، خاصة في ظل الأوضاع السياسية الراهنة اقتراحات عملية لتفعيل الرؤية من فكر كشك إلى فلسطين.
أولا: التأسيس القيمي، العمل على التعاونيات كمدارس للمواطنة.
(كشك كان يرى أن التعاونية ليست فقط وسيلة إنتاج أو استهلاك، بل أداة لبناء المواطن المسؤول، وفي فلسطين، حيث يُغيّب العمل الجماعي أحيانًا لصالح الفردانية بسبب الإحباط العام أو ضعف الثقة، تُعدّ التعاونيات مدرسة محتملة لترميم العلاقة بين المواطن والهمّ العام).
ثانيا: نظام إرشاد.
ثالثا: شراكات مستدامة، مع منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص، بهدف تمويل ودعم مشاريع تعاونية في مجالات مثل إنتاج الغذاء المحلي، دعم الصناعات اليدوية، وخدمات التكنولوجيا.
اقتراح مشروع تطبيقي مستوحى من فكر د. كشك، (مدرسة التعاونيين الفلسطينيين) مبادرة وطنية لبناء جيل جديد من أعضاء التعاونيات الفلسطينيين المستنيرين فكريًا وتنظيميًا. تضم وحدات تدريب ميدانية، حلقات نقاشية حول القيم التعاونية، دعم لإنشاء تعاونيات شبابية ونسوية.
رابعا: التمكين المؤسسي، العمل على قانون تعاوني جديد يضمن الحوكمة، الشفافية، التعددية، وسنّ قوانين صارمة لمنع تضارب المصالح داخل إدارات التعاونيات.
"المعرفة أولًا... لا التمويل كشك انتقد الاعتماد على الدعم الخارجي دون وعي، وهو ما ينطبق على الكثير من المبادرات الفلسطينية المدعومة من مانحين، حيث تُضخ الأموال قبل بناء الرؤية"
خامسا: التعاون الإقليمي والدولي.
سادسا: التشبيك المجتمعي، بتحويل التعاونيات إلى مراكز مجتمعية تربوية داخل الأحياء والقرى، التمكين الاقتصادي والاجتماعي.
(تحصين التعاونيات من "التحزّب" و"الشللية": كان كشك يحذّر من اختطاف التعاونيات من قبل فئات نفعية، وهذا واقع عانت منه بعض التعاونيات الفلسطينية، التي سقطت في فخ السياسية أو العائلية).
في زمن الأزمات والاحتلال والانقسام، تصبح التعاونية فعل مقاومة... شرط أن يقودها تعاونيّون حقيقيون. ومن هنا، على فلسطين أن تنطلق لا من القوانين فقط، بل من الإنسان، كما أراد كشك، وأن تنظر إلى التجربة الأردنية لا كمنافس، بل كحليف يمكن التعلم منه.
"وكما أكد د. حسنين كشك، فإن النجاح الحقيقي يبدأ من إعداد التعاونيين الذين يحملون القيم والمبادئ ويقودون التغيير بوعي ومسؤولية،
وبالاستفادة من التجارب الناجحة في المنطقة، يمكن لفلسطين أن تضع حجر الأساس لحركة تعاونية قادرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، والمساهمة في تحقيق التنمية المستدامة المنشودة"
# "إعداد التعاونيين قبل التعاونيات" لإرساء أساس قوي للعمل التعاوني.