لم تُفلح الرواية الصهيونية الحديثة فقط في التأثير على المخيال الغربي، بل تغلغلت إلى البنى الذهنية العربية، بما فيها الفلسطينية، في ظاهرة تُجسِّد عمق التبعية الثقافية التي نعانيها، وتَـكشف هشاشة إدراكنا لتاريخنا الذي بات يملى علينا من مستعمرينا.
إحدى أكثر هذه السرديات تفاهة وتضليلاً هي الادعاء القائل إن اسم "فلسطين" لم يطلَق على الأرض المعروفة بهذا الاسم إلا بعد قَمْع الرومان لثورة بار كوخبا اليهودية سنة 135م، زاعمين أن روما عمدت إلى تبديل اسم الأرض من "يهوذا" أو "أرض إسرائيل" إلى "فلسطين" نكاية باليهود، عبر نسبتها إلى أعداهم التاريخيين، الفلستيين.
غير أن هذا الادعاء، على رواجِه وقبوله لدى شريحة واسعة من الباحثين، ينهار أمام الحقائق التاريخية والأثرية المثبَـتة، التي تُظهِر استخدام اسم "فلسطين" واشتقاقاته قبل الميلاد بعدة قرون، وقبل ميلاد هذه الرواية الصهيونية المتأخرة بأكثر من ألف عام.
نقوش معبد مدينة هابو الجنائزي في عهد الفرعون رمسيس الثالث (1187–1156 ق.م) تُعَدُّ أَقدم الأدلة المؤكَّدة على وجود الفلستيين، حيث ظهرَت تسميات شعوب البحر ومن ضمنها مجموعة "ب-ل-س-ت" أو "Peleset" بحسب القراءة اللسانية. تُظهِر هذه النقوش الفلستيين كمجموعة ذات سمات مادية مميزة (من حيث الأزياء والأسلحة)، وتوثِّق استيطانهم في مناطق كعسقلان وقطاع غزة بحلول عام 1175 قبل الميلاد، بعد فشلهم في اقتحام مصر، فيما يبدو أنه جرى بترتيب مع السلطات المصرية لاحتوائهم.
تطوَّر هذا الاستيطان، الذي لم يكن عشوائياً، إلى كيان حضري متماسك معروف باتحاد البنتابوليس، المكوَّن من خمس مدن: غزة، عسقلان، أسدود، جت، وعقرون. وقد شَكَّل هذا الاتحاد قوة إقليمية ذات استقلالية عسكرية وتجارية معتبرة، مارسَت دوراً فعّالاً في التجارة عبر شرق المتوسط، وكانت هذه المدن مراكز لثقافة هجينة تمزج بين التأثير الإيجي (اليوناني القديم) والعناصر الكنعانية.
اعتَمد الآشوريون، في القرن الثامن قبل الميلاد، تسمية مشتقّة هي "بي-لي-سْ-تُو" (Pilistu أو Palastu)، ما يؤكِّد استمرارية الاسم وتداوله على مستوى الإمبراطوريات الكبرى. هذا التواتر الاسمي، من النقوش المصرية إلى الأرشيف الآشوري، يُفنِّد مقولة أن الاسم روماني المنشأ، ويضعنا أمام مشهد حضاري وجغرافي كانت فيه "فِلِسْتيا" معروفة بوضوح كمنطقة مستقلة قبل أي محاولة رومانية لتسميتها.
فلسطين في الجغرافيا الإغريقية قبل الميلاد
يُعَدُّ المؤرخ الإغريقي هيرودوت (حوالي 430 ق.م) من أوائل من استخدم مصطلح "فلسطين" في الأدب الجغرافي القديم. ففي كتابه "تاريخ هيرودوتوس"، وَصَف المقاطعة الخامسة من تقسيمات الإمبراطورية الفارسية قائلاً: «في هذه [المقاطعة الخامسة] كانت كلّ فينيقيا والجزء من سوريا المسمى "فلسطين" وقبرص». (هيرودوت، الكتاب الثالث، 430 ق.م).
يُظهر هذا الوصف أن استخدام هيرودوت لمصطلح "فلسطين" لم يكن محصوراً بالساحل الفلسطيني التقليدي، بل امتَدَّ ليشمل المناطق الداخليّة مِثل جبال الخليل ووادي الأردن. يَعكس هذا الاستخدام فهماً أوسع للمنطقة الجغرافيّة، حيث اعتُبرت فلسطين جزءاً من سوريا الكبرى. لاحقاً، أَصبح مصطلح سوريا الكبرى يُستخدم للإشارة إلى بلاد الشام بأكملها، ممّا يؤكِّد أن فلسطين كانت جزءاً لا يتجزّأ من المشهد الجغرافي والسياسي الواسع للمنطقة.
في كتاباته عن الأرصاد الجويّة، التي تعود إلى الفترة بين 400-300 قَبْل الميلاد، قَدَّم أرسطو وصفاً لافتاً عن البحر الميت، مشيراً إلى ما اعتبره جزءاً من منطقة فلسطين. في إحدى ملاحظاته، قال أرسطو: «لو كانت القصص التي يروونها عن البحيرة في "فلسطين" صحيحة، لكانت تؤيِّد ما أقول؛ فَهُم يقولون إنّه إذا قَيـَّـدْت إنساناً أو حيواناً وألقيته فيها، فإنّه يطفو ولا يَغرق تحت السَّطح. كما أن البحيرة شديدة الملوحة والمرارة بحيث لا توجد فيها أسماك» (Library, 2023).
لم يكن هيرودوت وأرسطو استثناءً، بل تبعهم مؤلفون كلاسيكيون كُثُر استخدموا مصطلح "فلسطين" بصورة واضحة، منهم: بلوتارخ، بوسانياس، أوفيد، تيبولوس، بومبونيوس ميلا، بليني الأكبر، ديو كريسوسطوم، ستاتيوس، فضلاً عن المفكرين اليهود المتأغرقين مثل فيلو الإسكندري ويوسيفوس فلافيوس، ما يعكس رسوخ الاسم في المدونات الجغرافية والسياسية للأزمنة الكلاسيكية.
روما لم تَخلق الاسم، بل وَرِثَتْه
حين أَطلَق الرومان اسم Syria Palaestina على جنوب سوريا بعد سَحْقِهم لثورة بار كوخبا، فإنهم لم يبتدعوا اسماً جديداً، بل أعادوا استخدام اسم الأرض الموثَّق والمتداول منذ قرون، الأمر الذي تؤكِّده الموسوعة البريطانية (Encyclopædia Britannica, 2022) وموسوعات التاريخ الكلاسيكي.
لاحقاً، وَرِث المسلمون المصطلح كما هو، وتواصَل استخدامه في الأدبيات الجغرافية الإسلامية، مما يدل على استمرارية الاسم لا انقطاعه.
لا يُعقل أن يبنى سَرْد تاريخي كامل على نكاية سياسية ظرفية، كما يريد البعض أن يصدِّق؛ فاسم "فلسطين" لم يكن اجتهاداً رومانياً، ولا فهلاً انتقامياً من مجتمع يهودي ثانوي عاش في هذه الأرض، ثم جرى لاحقاً تضخيم دوره والمبالغة في تأثيره عبر الرواية التوراتية.
أما الادعاء الصهيوني بأن الاسم وُلِد بعد قَمْع ثورة بار كوخبا، فهو تعبير عن منطق استعاري يتوسَّل التاريخ لينفيه، ويعيد تركيب الجغرافيا كما يشاء – لا كما كانت.