متابعة الحدث
رغم كونه مسجّلاً كمؤسسة علمية رسمية، فإن المعهد الإسرائيلي للأبحاث البيولوجية في نيس تسيونا يتمتع بمستوى غير مسبوق من السرية الأمنية، يجعله أشبه بقاعدة عسكرية أكثر من كونه مركزًا أكاديميًا. يقع المعهد وسط منطقة سكنية مدنية، لكنه محاط بجدران إسمنتية عالية، وأنظمة مراقبة إلكترونية، ونقاط تفتيش مغلقة. ولا يُسمح للزوار بدخوله، كما يُمنع نشر أي صور أو خرائط دقيقة له. ويتبع المعهد مباشرةً لمكتب رئيس حكومة الاحتلال، ما يمنحه حصانة قانونية واستخباراتية كاملة. هذه البنية السرّية تعزز الاعتقاد بأن وظيفته تتجاوز البحث الطبي إلى تطوير أسلحة بيولوجية ضمن برنامج غير معلن.
طوال العقود الماضية، راكم المعهد قدرات كبيرة في مجالات تشمل تطوير السموم البيولوجية، والأمراض المعدية المعدّلة وراثيًا، ومضادات الأعصاب. ورغم أن “إسرائيل” لم توقّع على اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية، إلا أنها تتجنّب رسميًا الاعتراف بامتلاك برنامج هجومي. مصادر استخباراتية غربية، وتسريبات إعلامية متكررة، رجّحت أن المعهد لعب دورًا رئيسيًا في تطوير وسائل غير تقليدية للاستخدام في عمليات الاغتيال والتخريب، منها “السموم الذكية” القابلة للحقن أو الاستنشاق. وتزايدت هذه الشكوك بعد حوادث غامضة طالت علماء عرب وإيرانيين، ما جعل المعهد هدفًا مفضّلًا لخصوم "إسرائيل" ضمن ما يُعرف بـ”حرب العقول”.
تربط تقارير عديدة بين المعهد وبين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وخاصة “الموساد”، في تنفيذ عمليات اغتيال باستخدام مواد سامة بيولوجية أو كيميائية دقيقة. إحدى أبرز هذه الحوادث كانت محاولة اغتيال القيادي في حركة حماس خالد مشعل في عمّان عام 1997، حيث استخدم عملاء الموساد مادة سامة تُحقن عن طريق الأذن. يُعتقد أن المادة المستخدمة تم تطويرها في نيس تسيونا، وأن وحدة طبية خاصة تابعة للمعهد تم إرسالها إلى الأردن لاحقًا لتقديم الترياق الذي أنقذ حياة مشعل، ضمن صفقة فرضها العاهل الأردني الملك حسين مقابل الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين.
المعهد لا يعمل كباقي مراكز الأبحاث الأكاديمية، بل يشبه من الداخل وحدة عسكرية مغلقة. الموظفون يخضعون لتدقيق أمني دقيق من قبل جهاز “الشاباك”، ويُمنع عليهم نشر أبحاثهم بشكل علني ما لم تمر عبر الرقابة العسكرية. يتم عزل المختبرات عن بعضها البعض، ولا يُسمح بتداول المعلومات إلا ضمن نظام “الفقاعات الأمنية”. بعض الشهادات المسرّبة من موظفين سابقين أفادت بوجود “أقسام تحت الأرض” لا يُسمح حتى للباحثين العاملين في المختبرات العادية بالوصول إليها، ويُعتقد أنها مخصصة لتخزين عينات فائقة الخطورة أو لاختبار مواد سامة في ظروف ميدانية.
للتغطية على نشاطه العسكري، يقوم المعهد بتطوير مشاريع طبية حقيقية مثل لقاحات لأمراض نادرة، ومضادات حيوية مقاومة، وأجهزة كشف للتلوث البيئي. إلا أن باحثين أوروبيين حذّروا من أن بعض هذه الأبحاث “ثنائية الاستخدام” يمكن بسهولة تحويلها لأغراض عسكرية، مثل تعديل فيروسات لتكون أكثر فتكًا أو تطوير ناقلات بيولوجية للأمراض. في عام 2020، حين أعلن المعهد عن تطوير لقاح ضد كورونا، تساءلت بعض الجهات الدولية عن سبب قيام مؤسسة غير تابعة لوزارة الصحة أو التعليم العالي، بل تتبع لرئاسة الحكومة مباشرة، بمثل هذا المشروع، معتبرين ذلك غطاءً لنشاطات أخرى.
صباح اليوم، أعلنت إيران استهداف المعهد الإسرائيلي في نيس تسيونا بصواريخ دقيقة ضمن “الموجة الصاروخية العشرين”، ردًا على ضربة أميركية إسرائيلية استهدفت منشآت نووية داخل إيران. ورغم التعتيم الإعلامي الإسرائيلي، سرّبت وسائل إعلام أجنبية صورًا لانفجار ضخم بالقرب من موقع المعهد. ضربة من هذا النوع، في قلب منظومة الأمن الإسرائيلي، تمثّل تحوّلًا استراتيجيًا خطيرًا، إذ كسرت الخط الأحمر الذي تفادت القوى الإقليمية تجاوزه لعقود. إيران أرادت من خلال هذا الاستهداف توجيه رسالة مفادها أن القدرات غير التقليدية الإسرائيلية – بما في ذلك الأسلحة البيولوجية – لم تعد في مأمن من الردع.
كعادتها، لم تعترف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية رسميًا بوقوع إصابات أو أضرار مباشرة في المعهد. لكن التوتر الذي تلا الضربة، والإغلاق الفوري للمنطقة، وانتشار وحدات الحماية الكيميائية، كشفت عن حالة من الذعر والارتباك. صحيفة “يديعوت أحرونوت” تحدّثت في تقرير مقتضب عن “حادث أمني حساس قيد التحقيق”، دون ذكر المعهد بالاسم. أما الرقابة العسكرية، ففرضت حظرًا تامًا على النشر، ما يعزز فرضية أن الضربة أصابت منشأة ذات طابع حساس، وربما أدّت إلى تسرّب أو خلل في منظومة المواد البيولوجية. التعتيم لم ينجح هذه المرة في إخفاء حقيقة أن “إسرائيل” باتت مكشوفة أمام أعدائها.
الهجوم الإيراني على معهد الأبحاث البيولوجية لا يمكن فهمه فقط كردّ فعل على ضربة نووية، بل كجزء من استراتيجية شاملة لإعادة تعريف “الشرعية العسكرية” في الشرق الأوسط. المعهد، بصفته مركزًا يُشتبه بأنه يطوّر أسلحة بيولوجية سرية، أصبح من منظور خصوم "إسرائيل" هدفًا مشروعًا في أي مواجهة غير تقليدية. وهذا يفتح الباب أمام موجة جديدة من التهديدات، ليس فقط من إيران بل من حركات المقاومة الإقليمية، التي قد تعتبر استهداف مراكز البحوث العسكرية المتخفية جزءًا من توازن الردع. لم يعد المعهد محصّنًا، لا سياسيًا ولا أمنيًا، كما اعتادت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن تصوّر.