"جدران تهتز ومستقبل مجهول" تختزل شعورًا عميقًا بعدم الأمان، داخل بيت يتصدع تحت وقع الزلازل، لا تدري إن كان سينهار في اللحظة التالية، أو إن كنت ستخرج منه يومًا سليمًا. بيوتنا لم تعد آمنة، لا من القصف، ولا من الفقر، ولا من الانقسام، الجدران لا تهتز فقط تحت وقع الصواريخ، بل تحت وطأة القلق الوطني، والتآكل المؤسسي، وضبابية المسار السياسي، تحت وطأة العجز، الغضب، والخذلان.
أما المستقبل، فهو مؤجل إلى إشعارٍ آخر، وربما إلى جيلٍ آخر، فلا شيء مؤكد، ولا شيء مضمون، حتى الأحلام صارت في حالة رجفان.
في أرض تعوّدت على الهزّات، لم يعد ارتجاف الجدران حدثًا استثنائيًا، بل واقعًا يوميًا يعيشه الفلسطيني في بيته، ومخيمه، ومدينته، وفي قلبه أيضًا، لم تعد "الهزات" مجرد دلالة على قصفٍ أو اجتياح، بل على تصدّع أعمق: في البُنية السياسية، في الثقة الشعبية، وفي خريطة الطريق التي يفترض أن تقودنا نحو الحرية والاستقلال.
الجدران تهتز حين يُهدم البيت الفلسطيني على رأس أطفاله، لكنها تهتز أكثر عندما يفقد الإنسان ثقته بأن هناك من يدافع عنه سياسيًا وأخلاقيًا.
تهتز حين يُختزل الوطن في جغرافيا منقوصة، وسلطة منزوعة السيادة، ومؤسسات تخشى الشارع أكثر مما تخشى الاحتلال. أما المستقبل، فمجهول... ليس لأننا نجهل ما سيأتي، بل لأننا نعلم تمامًا ما لن يأتي: لن تأتي العدالة ما دامت المحاسبة غائبة، و"الفساد" يُغلف بشعارات التحرر. ولأن القرار مرتهن، والكرامة مرهونة، والخطاب الرسمي بات أقرب إلى المهدئات السياسية منه إلى الرؤية.
أما الأفق السياسي، فتتجاذبه مبادرات جزئية، وتوازنات إقليمية، ومصالح دولية، غالبًا ما تُقصي الرواية الفلسطينية وتُفرغها من عمقها التحرري والحقوقي، ووسط تفكك تدريجي لمنظومة القيم التي طالما تبنتها المؤسسات الدولية، يجد الفلسطيني نفسه محاطًا بجدران من العزلة، وفي مواجهة مستقبل غير واضح المعالم.
تتراجع القضية الفلسطينية على سلم الأولويات الدولية، لا لقلة عدالة مطالبها، بل لانشغال العالم بإدارة أزمات متعددة تتراوح بين النزاعات المسلحة، وأزمات المناخ، والتحولات الاقتصادية. لقد تراجعت ثوابت الدعم الدولي، وأُفرغت كثير من القرارات الأممية من مضمونها العملي، بينما تُطرح حلول جزئية لا تعالج جوهر الاحتلال، بل تكرّس إدارته.
تهتز الجدران حين يشعر الفلسطيني أن صوته لا يُسمع، أن قراراته لا تُؤخذ في الحسبان، وأن مستقبله يُصاغ في عواصم أخرى، دون أن يكون جزءًا حقيقيًا من صياغته.
والمستقبل ليس مجهولًا فقط لأنه غامض، بل لأنه قابل للتشكل بفعل الإرادة السياسية، وبناء الثقة، وإعادة توجيه الخطاب السياسي الفلسطيني ليكون أكثر شمولًا وتنوعًا، وقادرًا على مخاطبة الداخل والخارج بلغتين واضحتين: لغة الحقوق غير القابلة للتصرف، ولغة الواقع القابل للبناء المشترك.
فالتحرر لا يكون فقط من الاحتلال، بل من أدوات التشظي، من رواسب الاستبداد، ومن السرديات البالية التي لم تعد تقنع جيلًا يرى الحقيقة على شاشة هاتفه، ويسمع صوته في الميدان. المرحلة الراهنة تتطلب منّا شجاعة التجديد، لا اجترار الماضي، تتطلب بناء جدران جديدة، من الشفافية، من المحاسبة، من الوحدة الحقيقية لا الشكلية. تتطلب خطابًا سياسيًا يعكس آلام الناس لا مصالح المتنفذين، فإما أن نعيد ترميم البيت الفلسطيني بأيدي شعبه، أو نترك الجدران تتهدم، ونحن منشغلون في توزيع الأنقاض.
إن المطلوب اليوم ليس جلد الذات، ولا تكرار الأسى، بل إطلاق حوار وطني مسؤول يُعيد ترتيب الأولويات، ويمنح الشباب دورًا أكبر في تشكيل الرؤية، ويستثمر الزخم الدولي المتعاطف مع الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني، خاصة في ظل تصاعد الخطاب الحقوقي على مستوى العالم، وتنامي أدوات التأثير غير التقليدية. وبناء تحالفات فاعلة في فضاء الرأي العام العالمي.
ربما تهتز الجدران، لكن ما يبنى بوعي وكرامة لا يسقط بسهولة. وإذا كان الحاضر مضطربًا، فإن المستقبل لا يزال ممكن التشكيل، شرط أن نحسن قراءته، وأن نكون جزءًا فاعلًا في صنعه.
المستقبل لا يُنتظر… بل يُصنع
وإما أن نبني جدرانًا جديدة من الوعي، الوحدة، والكرامة، أو ننتظر سقوط ما تبقى، ونحن نردد: "هزّت الجدران... ولم ينجُ أحد".