مع انتهاء الحرب الاحتلالية على إيران، والتوقعات بارتداد ذلك على توسيع الهجمات والاعتداءات على الأراضي الفلسطينية وإطلاق يد المستوطنين لاستباحة الأرض الفلسطينية، وهو ما تم فعلًا على أرض الواقع، فما جرى في كفر مالك والعديد من القرى في الريف الشرقي لرام الله والبيرة (سنجل، ترمسعيا، المغير، أبو فلاح) "تصعيد نوعي"، حيث تتعرض بشكل دائم ومستمر لاعتداءات مماثلة: إشعال النار في الممتلكات، محاولات إحراق للمنازل والمنشآت على أطراف البلدات، ومنع الحركة والتنقل (عربدة) متواصلة تحوّل حياة الناس إلى قلق مستمر.
من المتوقع بعد الوصول إلى اتفاق مع إيران بوقف الحرب، وضمن ما أُعلن من خطة (الوزير بن غفير) ذات النقاط الخمس، تمت ترجمة هذه الاعتداءات واقعًا؛ فما يجري ليس صدفة، وليس لحظة عابرة أو حوادث متفرقة، بل هي تعليمات رسمية يقودها وزراء، يُعمل عليها منذ سنوات، وتتسع إلى كافة المناطق، وما رأيناه قبل أسابيع في بروقين ومناطق أخرى كان "بروفة" لما هو قادم بأشكال وتطبيقات متنوعة، إحدى أهمها اعتداءات المستوطنين.
فيما هناك، بطبيعة الحال، نُذر وضعٍ آخر يجري تكريسه رويدًا رويدًا، يتم تناوله دون تدقيق أو إحاطة بكامل معانيه، والمقصود هنا: البوابات، والإغلاقات، والحواجز، وتنغيص واقع الحياة اليومية.
ولعل السؤال الأوسع انتشارًا في الفترة القريبة الماضية هو: هل فُتحت البوابة؟
بحكم وجودي في العديد من الأطر والمؤسسات، وعلى مجموعات التواصل الاجتماعي لمجموعات واسعة أيضًا، وصفحات إعلامية وإذاعات محلية تقوم بنشر وتعميم نشرة تعريفية بأحوال الطرق يتم تحديثها كل ساعة أو نصف ساعة أحيانًا، تقوم برصد الإغلاقات وأوضاع الحواجز، وأسفل النشرة يتم وضع ملاحظة: "هذه المعلومات قابلة للتغير في كل لحظة"، تمامًا كما هي أسعار العملات المتداولة.
فمئات الرسائل والمعلومات تتدفق تباعًا على نطاق واسع في كل لحظة حول بوابة "س" أو حاجز "ص"؛ رسائل تقول: "تم فتح البوابة"، أخرى: "سالكة"، وأخرى تنفي وتشير بكلمة "مغلقة"، لا تلبث الرسائل أن تُنْفَى أو يتم الإشارة إلى تواجد قوات الاحتلال الذين أغلقوا البوابة قبل دقائق قليلة.
هذا جزء يسير من حال الفلسطيني في الأراضي المحتلة، والمعاناة اليومية التي يعيشها مع تعطل حياة الفئات العديدة من موظفين، تجار، طلاب، عمال، وحتى الحالات المرضية والإنسانية من النساء الحوامل أو المصابين بالأمراض المزمنة. هؤلاء يحتاجون إلى "تنسيق"، ومنهم من يُسمح له بالعبور بعد إعاقة قد تطول أو تقصر، أو يُرفض السماح له بالمرور في معظم الأحيان، تبعًا لمزاج جندي يقف على الحاجز مشهرًا سلاحه تجاه المواطنين، في إطار الإمعان والتعليمات المباشرة من المستوى السياسي التي تقضي بتحويل حياة الفلسطينيين إلى معاناة، وكأنها طوال السنوات الطويلة الماضية من عمر الاحتلال كانت فردوسًا وزهورًا!
من البديهيات ذكر هذه العلامات البسيطة لواقع صعب نحياه يوميًا، بما يعكس صورة قاتمة لأوجه تلك المعاناة، مرورًا ببعض التفاصيل حولها، فما يقارب من 1000 حاجز وبوابة حديدية هي فعلاً أحد أشكال الفصل العنصري واستلاب الفلسطيني حقه الطبيعي في حرية الحركة والتنقل، الحق المكفول بموجب اتفاقيات جنيف للعام 1949، والمواثيق والقوانين الدولية التي تمنع على قوة الاحتلال "إذلال" أو إهانة أو منع الحركة للمدنيين، بل تُجبر الاحتلال على حمايتهم.
أما ما يُدرج على قائمة العقوبات الطويلة للفلسطينيين فوق جميع الإغلاقات السابقة والحالية، فهو ما حاولت حكومة الاحتلال الدفع به خلال ما يعرف بـ"حرب 12 يومًا" مع إيران، من خلال إعلان أوقات إغلاق وإعادة فتح البوابات التي تفصل القرى والبلدات وتربطها بباقي المناطق. وهو ليس بالأمر الجديد تمامًا، كسلوك وإجراء احتلالي متبع، إنما الجديد هو تكريسه واقعًا معاشًا.
فمثلًا، يتم الإعلان عن إغلاق حاجز عطارة إلى الشمال من بيرزيت ما بين الساعة كذا وفتحه حتى الساعة كذا. هذا ينطبق على العديد من المناطق الأخرى. في محيط نابلس، مثلًا، تم تشديد الإجراءات على حواجز الاحتلال، والمناطق الأخرى عانت من نفس هذه الإجراءات.
هذه الإجراءات المتتالية هي تنفيذ لخطة كاملة متكاملة تجري على الأرض، ضمن تضييق مناحي الحياة. أبسطها: الحركة والوصول إلى العمل أو المشفى، بات اليوم في عداد الأمنيات، أو ما يقرره جندي أو مستوطن في معظم مناطق الضفة الغربية.
أما القدس، فهي معزولة تمامًا عن محيطها، ولا مجال لأحد أن يصلها.
ما أود قوله هنا هو أنه بذريعة الحرب الأخيرة أو بدونها، تسعى "إسرائيل" إلى "كيّ وعينا الجمعي"، وتحويل الفلسطيني إلى "فاقد لإنسانيته"، إلى درجة أقل: نظرة دونية وفق منطق الاستعلاء الصهيوني، والتربية على عدم رؤية الآخر في مدارس الحقد والكراهية.
للنظر، مثلًا، في تأثير ما يجري من إغلاق على الوضع الاقتصادي: مرور المنتجات بمختلف أنواعها، وضع التجار، تكديس البضائع، وسلوك الناس أمام محطات المحروقات أو أزمة الغاز... كل هذا يجري من أجل هدف واحد: تحويل الحياة لتصبح "لا تُطاق".
انعدام المقومات الأساسية، إشعال النزعة الفردية، والوصول إلى المزيد من الأزمات الداخلية، مع أزمة الرواتب والمقاصة، وعمال الداخل، ومحاولة تفجير المزيد من الأزمات وارتفاع حدّتها في ظل غلاء الأسعار، وتراجع القوة الشرائية للمواطن الذي أصبح مكشوفًا تمامًا، بانتظار ما تسوقه الأقدار.
أي إن ما يجري هو تصميم لنظام فصل عنصري يحدد ساعات المغادرة -إن تمّت- وساعات الرجوع. مواعيد فتح وإغلاق البوابات، في الغالب، يشتكي المواطن أنه حتى في المواعيد التي يعلنها الاحتلال لا يجري الالتزام بها. فعند وصله الحاجز قبل الموعد، يجده قد أُغلق.
وهذا ينطبق على العديد من القضايا التي يريد الاحتلال من خلالها أن يشغلنا بسؤال: "فُتحت البوابة؟" بينما يواصل الضم والتوسع ونهب الأرض وهدم المزيد من بيوت وأحلام الفلسطينيين. بمعنى آخر: تحويل السؤال المركزي من "كيف ننهي الاحتلال؟" إلى مطالبات لتحسين شروط الحياة اليومية تحت الاحتلال: توفير بعض السلع!
وهنا لا بد من التذكير بواقع قطاع غزة: سياسة التجويع والإبادة الحاصلة، لخلق واقع منفصل هناك. المعاناة نتيجة ما جرى في أكتوبر 2023، هذا ما يحاولون دمغه في عقولنا. وهنا واقع مختلف: الأولوية توفير السلع والمواد الغذائية... سيناريو مُجترّ، مُعاد، يحاولون زرعه في عمق تفكيرنا. مع أن النتيجة واحدة: تطبيق مخطط التهجير القسري والتطهير العرقي في الضفة الغربية وقطاع غزة على حد سواء، مع اختلاف الأدوات أو نسبة استخدامها أحيانًا.
أبان الانتفاضة الثانية عام 2000، مارست دولة الاحتلال الإغلاق، ونشرت الحواجز في أرجاء الأرض الفلسطينية. ما زالت الذاكرة تعج بالكثير من القصص حول ذلك والمعاناة اليومية. واليوم، أيضًا، ما يجري هو ذات النهج، ولكن الهدف والطريقة مختلفة.
المشهد مُروع لدرجة البكاء: مسافة بين قرية وأخرى قريبة قد تحتاج لساعات، وانتظار طويل، وإعاقة كبيرة، في حين كانت تستغرق أقل من 10 دقائق في الوضع الطبيعي. هذا ليس صدفة، بل هو ضمن استراتيجية تخلق تحولات عميقة طويلة الأمد في وعي الفلسطيني، والبنى الاقتصادية والاجتماعية، لتزرع في الأجيال حقيقة الأمر الواقع. القرى والمدن اليوم سجون حقيقية، أرض مقطعة الأوصال، ينخرها الاستيطان والتوسع ونقاط التفتيش، خلق حالة انفصال بين الشعب والقيادة، وافتعال المزيد من الأزمات الداخلية، ضمن ثقافة الشخصنة، والنفوذ، وبعض المظاهر السلبية التي يجري تعزيزها، وصولًا إلى فقدان السلطة والقوى السياسية والمكونات بمعظمها لدورها وثقة الناس فيها.
لكن لا يستسلم الفلسطيني بالتجربة للأمر الواقع. إطالة الأزمات والإجراءات لا تجعل منه كائنًا ضعيفًا منكسِرًا، بل هو قادر دومًا على ابتكار أدوات جديدة للتغلب على الواقع، على قاعدة رفضه وعدم الخضوع له، بل يستمر في تمسّكه بالأمل وإن طال الطريق وأُغلق أمامه.
علينا التنبه لقادم الأيام، سواء على صعيد الاعتداءات اليومية للمستوطنين، أو وجهها الآخر: ممارسات جيش الاحتلال، ضمن لعبة مكشوفة لتقاسم الأدوار، تجلت ليس فقط في توفير الحماية لهم في كفر مالك، وإنما المشاركة في الهجمة على الأبرياء العُزّل وسقوط الشهداء والجرحى في مجزرة كان يجري تنفيذها، والعالم صامت يغرق في نومه العميق.
البوابة "فاتحة" ليست سؤالًا عابرًا في مرحلة يريدون منها أن يكون سؤالًا دائمًا في واقعٍ معاش تتجلى فيه صور المعاناة. مع أن هناك معاناة ومأساة تجري، لكنها ستكوي وعينا للمزيد من الثبات والبقاء، وأعتقد بالمزيد من الإصرار على الصمود وحقنا في الحياة على هذه الأرض التي ليس لنا سواها. هو حقنا الأزلي، وإيماننا الراسخ مهما جربوا من أساليب.
ستتذكرها الأجيال في المجالس والأحاديث كصنوف للمعاناة التي مررنا بها، ستكون ذكريات قاسية بعد أن يرحل الاحتلال بكل أساليبه وقوته وجبروته، بكل ما يحاول عبثًا أن يغرسه في وعينا الأصيل: أن نغادر.
يكون الجواب دائمًا: بالمزيد من البقاء.
ليستخلصوا الدرس من أبسط الأمور، إن كانوا فعلاً قادرين على التقييم. فالفلسطيني الذي يقيم حفل عرسه على حاجز "زفّة العريس" هي رسالة تحدٍّ وفرح رغم السواد الذي يمثله هذا الحاجز. والطالبة أو الطالب حين يقطعون مسافات طويلة للوصول إلى مقاعد الدراسة، هي رسائل بالتشبث بالأمل والغد. والمرأة التي تضع مولودها في سيارة أو في مركبة إسعاف على الحاجز، هي نماذج للبقاء والصمود بأرقى المعاني الإنسانية.
علينا جميعًا: حكومة، وسلطة، وصنّاع قرار، كل الهرم السياسي، أن نضع كل الإمكانيات المتاحة لحماية الوجود الفلسطيني ومواجهة مخطط التهجير.
هذه ذخيرتنا المتبقية: الناس. هم من يصنعون اللوحة الأجمل. هم شعبنا الجدير بكل الاهتمام، دون أي إبطاء أو تأخير أو تردد.