انتهت جولة صدام هي الأولى من نوعها بين إيران وإسرائيل، ضمن مسار طويل من المواجهة غير المعلنة التي ظلّت لعقود تدور في الظل. هذه الحرب، التي كانت على هيئة عمليات اغتيال سرية، وهجمات سيبرانية تستهدف عمق البنى التحتية، كانت تُدار كصراع منخفض الكثافة، لكنه مرتفع الأثر. طيلة تلك السنوات، حاولت إسرائيل كبح تطور المشروع النووي الإيراني، معتمدة على تفوقها النوعي ودعم غربي ثابت، دون أن تنزلق إلى مواجهة شاملة.
لكن مع هجوم حماس المفاجئ في 7 أكتوبر 2023، انكشف عمق الاشتباك الإقليمي واتّضح أن حدود المعركة لم تعد تُرسم بين تل أبيب وطهران فحسب، بل تتداخل فيها غزة وبيروت وطهران وصنعاء. لم تعد الحرب مقتصرة على ضربات استباقية، بل تحولت إلى صدام مفتوح تتكشّف فيه النوايا والأهداف: إسرائيل تسعى لتفكيك المحور الإيراني من أطرافه. إنها لحظة انتقال من صراع مستتر إلى صدام مكشوف، يُرسم فيه مستقبل الإقليم بقوة النار وتكتيك الردع المتبادل.
في الواقع، يتكوّن المشروع النووي الإيراني من ثلاثة أركان رئيسية مترابطة، تُشكّل معًا البنية الكاملة لقدرة إيران النووية، ولا يمكن فهم طبيعة التهديد أو العمل على تحجيمه دون تحليل هذه الأركان بصورة شاملة، وهي على النحو التالي:
أولاً: الركن المادي – البنية التحتية والمواد النووية
يشكل البُعد المادي للبرنامج النووي الإيراني حجر الأساس في أي طموح نحو امتلاك قدرات عسكرية نووية. ويشمل هذا الركن سلسلة من المنشآت النووية الكبرى، مثل مفاعل نطنز في محافظة أصفهان، الذي يحتوي على آلاف أجهزة الطرد المركزي، وموقع فوردو المحصّن تحت الأرض بالقرب من مدينة قم، والذي يُعدّ أحد أكثر الأماكن تحصينًا.
إلى جانب هذه المنشآت، توجد أيضًا مواقع داعمة مثل بوشهر، وأصفهان تُسهم في مختلف مراحل دورة الوقود النووي، من تعدين اليورانيوم إلى التخصيب.
أما على صعيد المعدات، فقد طوّرت إيران أجيالًا متقدمة من أجهزة الطرد المركزي، القادرة على تخصيب اليورانيوم بسرعة وكفاءة أعلى بكثير من الجيل الأول. هذه الطفرات التقنية مكنت إيران من تخطي نسب التخصيب المحددة في الاتفاق النووي لعام 2015، لتصل إلى نسب تتجاوز 60% في بعض الأحيان، وهي نسبة تقترب من المستوى المطلوب لصناعة سلاح نووي (أكثر من 90%).
ثانيًا: الركن المعرفي – تراكم الخبرات والعقول النووية
إذا كانت المنشآت والأجهزة هي الهيكل الصلب للمشروع، فإن المعرفة والخبرة البشرية هي روحه النابضة. على مدار أكثر من ثلاثة عقود، نجحت إيران في إنشاء قاعدة علمية واسعة في مجالات الفيزياء النووية، والهندسة الكيماوية، وتكنولوجيا المواد.
ولا يقتصر الأمر على إنتاج أجهزة الطرد أو التخصيب، بل يمتد إلى تطوير نماذج تصميم أسلحة متطورة، ومحاكاة اختبارات تفجيرية، وفهم دقيق لدورة الوقود، بما يشمل تقنيات الإخفاء والتمويه عن أجهزة الرقابة الدولية.
أحد أبرز ملامح هذا الركن يتمثل في الشخصية المحورية محسن فخري زاده، الذي وصفه بنيامين نتنياهو في أحد عروضه العلنية بأنه "أب المشروع النووي الإيراني". ورغم أن طهران أصرّت على الطابع المدني لبرامجها، فإن التسريبات التي حصلت عليها إسرائيل من الأرشيف النووي الإيراني كشفت وجود دراسات ومحاكاة لتصنيع رؤوس حربية نووية، ما يؤكد وجود برنامج عسكري، مع بقاء المعرفة والعقول الفاعلة حيّة ونشطة في المؤسسات البحثية الإيرانية.
الخطورة هنا تكمن في أن هذه المعرفة لا يمكن قصفها أو تفكيكها بالقوة العسكرية، بل هي تنتقل وتُورّث وتُطوَّر مع مرور الوقت. فحتى لو دُمّرت المنشآت، فإن من يمتلك المعرفة يستطيع إعادة بنائها في فترات قياسية. ولذا، سعت إسرائيل إلى استهداف هذا الركن عبر عمليات اغتيال مركزة استهدفت عددًا من العلماء والمهندسين العاملين في المشروع، إلى جانب شن عمليات سيبرانية هدفت إلى تعطيل عملياتهم وأجهزتهم.
ثالثًا: الركن السياسي – الإرادة الاستراتيجية للعتبة النووية
أخطر ما في المشروع النووي الإيراني ليس اليورانيوم المخصب ولا الأجهزة المتطورة، بل الإرادة السياسية الثابتة والمعلنة للوصول إلى "العتبة النووية" دون اجتيازها الكامل. فطهران تدير سياسة مزدوجة تستند إلى مبدأ "القدرة دون الإعلان" – أي تطوير جميع العناصر التي تسمح بإنتاج سلاح نووي، مع الإبقاء على مستوى قانوني يسمح بإنكار امتلاك السلاح فعليًا، وبالتالي الإفلات من العقوبات العسكرية أو التدخل الخارجي المباشر.
هذه الإرادة تتجذر في الرؤية الإيرانية التي ترى أن السلاح النووي أو على الأقل القدرة عليه، يشكّل مظلة ردع حيوية في وجه التهديدات الإقليمية والدولية، خاصة من إسرائيل والولايات المتحدة.
إسرائيل من جهتها ترى أن هذه الإرادة السياسية هي العامل الحاسم الذي سيُعيد إنتاج كل ما يُدمَّر أو يُعاق. ولهذا، تسعى إسرائيل – سواء عبر العقوبات أو دعم الحركات الاحتجاجية أو العمليات السرية – إلى زعزعة بنية النظام الإيراني ذاته، لأنها ترى في إسقاط النظام الإسلامي الوسيلة الأضمن لإنهاء المشروع برمّته، وليس مجرد تأجيله أو تعطيله.
كيف تعمل إسرائيل؟
تدرك إسرائيل، بخبرتها وقراءتها الاستراتيجية، أن منع إيران من امتلاك قدرة نووية لا يمكن أن يتحقق عبر ضربة واحدة أو تكتيك منفرد. فإيران لا تعتمد في مشروعها النووي على منشأة واحدة أو عالم واحد أو لحظة واحدة من التحمّس السياسي، بل على منظومة متكاملة تقوم على ثلاث ركائز: البنية التحتية المادية، المعرفة البشرية، والإرادة السياسية.
ولذلك، طورت إسرائيل خلال العقدين الماضيين استراتيجية ثلاثية الأبعاد تستهدف هذه الأركان الثلاثة بصورة متزامنة ومتداخلة، تتراوح أدواتها بين القصف العسكري، والاختراق السيبراني، والاغتيال، والحرب النفسية، والتحريض الداخلي.
أولًا: ضرب البنية المادية – من نطنز إلى هجوم يونيو 2025
اعتمدت إسرائيل منذ سنوات على تقليد عسكري قائم على توجيه ضربات استباقية للبنية التحتية النووية في المنطقة. ولعل أبرز النماذج التاريخية لذلك هو قصف مفاعل "أوزيراك" العراقي عام 1981، ومفاعل الكُبر السوري عام 2007. غير أن التعامل مع إيران يفرض معادلة مختلفة، فبرنامجها النووي موزّع جغرافيًا، ومدفون في عمق الأرض، ومحمي بطبقات من الدفاعات الجوية والبنية السيادية.
مع ذلك، نجحت إسرائيل في تنفيذ عدة عمليات معقدة، مثل تفجير منشأة نطنز عامي 2020 و2021، والحريق في مفاعل فوردو، والهجوم السيبراني الذي عطل آلاف أجهزة الطرد المركزي. لكن التطور الأبرز جاء في 13 حزيران/يونيو 2025، عندما شنت إسرائيل هجومًا جويًا مكثفًا على إيران، ثم قصف الولايات المتحدة للمفاعلات النووية يوم 23 حزيران / يونيو 2025. استهدف الهجوم مواقع متفرقة منها منشآت في فوردو، ونطنز.
رغم نشر بعض الصور الجوية على اعتبار أنها توثق آثار القصف الأميركي على منشآت نووية إيرانية، إلا أن هذه الصور لا تُعد دليلاً قاطعًا على حجم الضرر أو عمق التدمير الذي لحق بالبنية التحتية الحيوية للمشروع النووي. فالمعطيات البصرية، مهما بدت دراماتيكية، تفتقر إلى التحليل الفني الذي يمكنه تحديد ما إذا كانت أجهزة الطرد المركزي، أو أنظمة التحكم والتخصيب، قد تعرّضت فعلاً لأعطال لا يمكن إصلاحها سريعًا.
ثانيًا: تفكيك المعرفة – استهداف العقول والملفات
تؤمن إسرائيل أن تدمير المنشآت النووية دون تعطيل المعرفة المتراكمة هو ضرب من العبث. فالعلماء الإيرانيون، ممن تلقوا تدريبهم داخل إيران وفي جامعات أجنبية، يمثلون بنية ذهنية قادرة على إعادة بناء أي منشأة دُمّرت، بل وتطوير نماذج أكثر تقدمًا في المستقبل. ولهذا، استهدفت تل أبيب هذه الجبهة منذ وقت مبكر.
أبرز هذه العمليات كان اغتيال العالم محسن فخري زاده في نوفمبر 2020، وهو المهندس الأساسي للبرنامج العسكري النووي الإيراني. تبعت ذلك سلسلة اغتيالات لعلماء في مجالات فيزياء النيوترونات، وتكنولوجيا الليزر، وعلم المواد المشعة، جرت بطرق متعددة، منها القنص، التفجير عن بُعد، والتسميم.
كما نفّذت إسرائيل واحدة من أبرز عملياتها الاستخباراتية عندما نجحت في اقتحام أرشيف نووي سري في قلب طهران، وسرقة أكثر من 50 ألف وثيقة وقرص تخزين. وقد أظهرت هذه الوثائق حجم التقدم الذي أحرزته إيران سرًا في تصميم رؤوس حربية قابلة للتحميل على صواريخ باليستية.
إضافة إلى ذلك، الهجمات السيبرانية التي تستهدف مصانع ومؤسسة الأبحاث النووية الإيرانية، وتلفيق رسائل بريدية مزوّرة أربكت التواصل بين العلماء والقيادة السياسية، في محاولة لخلق مناخ من فقدان الثقة والتخوين داخل المنظومة العلمية.
ثالثًا: ضرب الإرادة السياسية – المواجهة مع النظام نفسه
الركيزة الثالثة، والأكثر تعقيدًا من حيث الاستهداف، هي الإرادة السياسية للنظام الإيراني. فطهران ترى في امتلاك قدرات نووية متقدمة ضمانة استراتيجية للبقاء، خاصة في ظل الضغوط الإقليمية والعزلة الدولية، وتعتبر أن بقاء المشروع النووي هو جزء من السيادة الوطنية وليس فقط مسألة تقنية أو علمية. لذلك، فإن أي محاولة لكبح جماح هذا الطموح تستلزم مواجهة مع بنية النظام الحاكم نفسه.
لهذا السبب، لم تقتصر عمليات إسرائيل على استهداف المواقع أو العلماء، بل امتدت إلى محاولات إضعاف الجهاز السياسي الإيراني من الداخل. ويشمل ذلك دعم مجموعات مناوئة للنظام، تشجيع حركات احتجاجية في إيران.
خلال الحرب مع إيران، كشفت إسرائيل عن تحول استراتيجي لافت في أهدافها، لم يقتصر على تحجيم المشروع النووي أو الردع العسكري، بل اتّسع ليشمل تغيير نظام الحكم نفسه. ففي خطاب مباشر وغير مسبوق، وجّه بنيامين نتنياهو رسائل صريحة إلى الشعب الإيراني، داعيًا إيّاه إلى الثورة على النظام القائم، محمّلًا القيادة الإيرانية مسؤولية الحرب.