خاص الحدث
من داخل منزلها الكائن في حي بطن الهوى، أحد أحياء بلدة سلوان الواقعة جنوب المسجد الأقصى في مدينة القدس المحتلة، تقف الحاجة أم زهري الرجبي، محاطة بأعلام الاحتلال التي ترفرف فوق منازل استولى عليها المستوطنون، تتأمل مصيرها ومصير عائلتها بعد أن تسلمت أمرا بالإخلاء صادر عن سلطات الاحتلال، رغم إقامتها في هذا المنزل لما يقارب الخمسين عاما.
وفي تصريحات إعلامية، تسرد الحاجة أم زهري فصولا من معاناة ممتدة؛ فهي أم لاثنين من الشهداء، ولأسير قضى سبع سنوات في سجون الاحتلال. كما فقدت زوجها الذي عانى من مرض مزمن حتى وافته المنية. وعلى الرغم من هذه الخسارات المتتالية، تؤكد الحاجة أم زهري تمسكها بالأمل والصبر والثبات، مشيرة إلى أن ما تحملته من معاناة إنما هو فداء للقدس والمسجد الأقصى.
ولا تقتصر معاناة الإخلاء على عائلة الرجبي وحدها؛ إذ تسلمت خلال الشهر الجاري ست عائلات من سكان الحي أوامر إخلاء جديدة، في تصعيد واضح ضمن السياسات الاستيطانية الممنهجة.
استغلال الحرب وتسريع وتيرة التهجير
تعد بلدة سلوان من أبرز المناطق المحيطة بالمسجد الأقصى، وتمثل خاصرته الجنوبية، فيما يُعتبر حي بطن الهوى من أكثر الأحياء استهدافا بمشاريع التهويد والإخلاء القسري. وتندرج هذه الإجراءات ضمن سياسة طويلة الأمد تهدف إلى إفراغ المدينة من سكانها الفلسطينيين، لصالح توسيع الوجود الاستيطاني.
وفي هذا السياق، قال رئيس لجنة حي بطن الهوى، زهير الرجبي، في لقاء مع صحيفة الحدث، إنه "في ظل الحروب والظروف السياسية الراهنة، يتم استغلال الوضع القائم لفرض قرارات إخلاء جائرة. ففي هذا الشهر وحده، صدرت ستة قرارات إخلاء، شملت ثلاث عائلات من آل شويكي وعودة، وثلاث عائلات من آل الرجبي، ما يعادل إخلاء مبنيين يحتويان على ست وحدات سكنية".
وأضاف الرجبي: "اليوم تُبذل محاولات حثيثة لفرض أمر واقع على الأرض، يهدف إلى تفريغ هذا الحي من سكانه الأصليين وممتلكاتهم. وهذه ليست قرارات فردية معزولة، بل تأتي ضمن سياسة ممنهجة تتبعها حكومة الاحتلال لصالح الجمعيات الاستيطانية، بهدف توطين أعداد أكبر من اليهود المتطرفين في القدس ومحيطها".
الهجمة على سلوان: خريطة التهجير والتوسع
يشير زهير الرجبي، وهو ممن تسلموا مؤخرا أوامر إخلاء، إلى أن جوهر السياسات الاستيطانية الجارية في سلوان يتمثل في استهداف المسجد الأقصى المبارك ومحيطه. ويوضح أن سلوان، بوصفها الخاصرة الجنوبية للمسجد الأقصى، تُعد في صلب المشروع الاستيطاني الهادف إلى هدم الأقصى وإقامة ما يُعرف بالهيكل المزعوم على أنقاضه. ويؤكد الرجبي أن هذه الهجمة لا تقتصر على المسجد نفسه، بل تشمل كذلك المناطق المجاورة، وتحديدا ما يُطلق عليه الاحتلال اسم "الحوض المقدس"، والذي يضم أحياء سلوان، ووادي حلوة، ووادي الجوز، والشيخ جراح، مشيرا إلى أن سلوان تتحمل النصيب الأكبر من هذه الهجمة التي تنفذ من ستة محاور رئيسية.
ووفقا للرجبي، تبدأ هذه المحاور من وادي حلوة وتمتد إلى حي البستان، حيث تسعى سلطات الاحتلال إلى تهجير ما يقارب 128 عائلة فلسطينية، بغرض إقامة منتزهات توراتية على أنقاض منازلهم. وفي حي بطن الهوى، يتهدد خطر الإخلاء نحو 87 منزلا، يقطنها حوالي 700 شخص، بزعم أن ملكية الأرض تعود إلى جمعيات يهودية منذ عام 1892، باعتبارها وقفا دينيا يهوديا.
أما وادي الربابة، فقد تم الاستيلاء عليه من قبل وزارة العدل التابعة للاحتلال وما يسمى "الصندوق القومي اليهودي" (كيرن كييمت)، في إطار استكمال مشروع "الحوض المقدس" وسلسلة من "الحدائق التوراتية"، التي تهدف إلى ربط البستان بوادي الربابة، وتُستكمل ببناء الجسور وخط تلفريك يمتد من جبل الطور إلى ساحة البراق، ومنها إلى جبل الزيتون.
ويضيف الرجبي أن وادي ياصول أيضا يواجه تهديدات جدّية، حيث تقرر هدم 56 منزلا بدعوى "البناء غير المرخص"، وذلك لتوسيع ما يُسمى بــ "منتزه التييلت" المقام على جبل المكبر، وتهجير سكانه. وفي السياق ذاته، يوضح أن حي عين اللوزة، الذي يضم 28 منزلا ومسجدين، يواجه خطر الهدم بحجة شق ما يُعرف بــ "الشارع الأمريكي"، وهو مشروع بنية تحتية استيطاني يهدف إلى الربط بين مستوطنتي جبل أبو غنيم و"معاليه أدوميم"، عبر تهجير السكان الفلسطينيين وإزالة مساكنهم لتعبيد الطريق أمام هذا المشروع الاستيطاني التوسعي.
وبحسب الرجبي فإنه منذ السابع من أكتوبر 2023، تسارعت وتيرة الاستيلاء على العقارات في حي بطن الهوى بسلوان، ضمن سياسة تهويد ممنهجة تقودها الجمعيات الاستيطانية بدعم كامل من سلطات الاحتلال. فقد تم الاستيلاء على بناية تعود لعائلة شحادة، مكونة من أربع شقق سكنية، وبناية أخرى تعود لعائلة سالم غيث مكونة من شقتين، بالإضافة إلى بناية ثالثة تعود للمواطن جواد أبو سنينة.
واليوم، تتهدد أوامر الإخلاء بنايتين جديدتين تضمان ست وحدات سكنية، في استمرار واضح لهذا النهج التصعيدي. وما زالت المؤشرات تدل على أن هذه السياسة ستتوسع أكثر في الفترة القادمة، في محاولة لفرض أمر واقع استيطاني على الأرض، وفقا للرجبي.
بداية المعركة القانونية
ويوضح الرجبي أن هذه القضية بدأت في عام 2015، حين تفاجأت العائلات الفلسطينية في حي بطن الهوى بإخطارات إخلاء منازلها، بزعم أن ملكية هذه البيوت تعود لمؤسسات استيطانية يهودية. ومنذ ذلك الحين، تخوض العائلات معركة قانونية طويلة في أروقة محاكم الاحتلال، التي أثبتت، كما هو الحال في العديد من القضايا المشابهة، انحيازها الكامل لصالح المستوطنين.
ويضيف أن هذه المعركة استمرت قرابة 11 عاما، وانتهت بصدور قرارات قضائية تقضي بملكية تلك الأراضي للجمعيات الاستيطانية، مما شكّل الغطاء القانوني لانطلاق هجمة ميدانية شرسة تستهدف الوجود الفلسطيني في الحي.
وفي هذا السياق، يؤكد رئيس لجنة حي بطن الهوى في حديثه لصحيفة الحدث، أن "المحاكم تشكل جزءا من المنظومة الاحتلالية، وتعمل على منح مشاريع الاستيطان غطاء قانونيا زائفا".
ويُشير إلى أن جوهر النزاع في سلوان ليس قانونيا كما يُروج له الاحتلال، بل هو نزاع أيديولوجي وسياسي بامتياز، يهدف إلى تغيير الطابع الديمغرافي والديني للمدينة تحت ستار القانون.
فوق القانون وتحت الحصار: المستوطنون في قلب الحي الفلسطيني
ورغم أن العائلات الفلسطينية المقيمة في حي بطن الهوى تسكن في منازلها منذ خمسينيات القرن الماضي، وأبدت مرارا، في ظل انعدام الخيارات القانونية الفعلية، استعدادها للدخول في تسويات مالية، بما في ذلك دفع ثمن الأرض، تفاديا للتهجير القسري، إلا أن القانون الإسرائيلي الصادر عام 1972 يمنح هذا "الحق" فقط للمواطنين اليهود، فيما يُعرف بــ "استرداد" الممتلكات، بينما يُحرم الفلسطينيون منه تماما، حتى وإن كانوا القاطنين في العقار منذ أجيال، ويملكون أوراقا ثبوتية تثبت ملكيتهم، وفقا لما ذكره الرجبي.
وبحسب الرجبي، فقد استُخدم هذا القانون التمييزي بشكل ممنهج منذ عام 2015 كأداة لإضفاء غطاء قانوني على سياسات الإخلاء، بما يتناقض مع مبادئ العدالة الدولية وأبسط الحقوق المدنية للفلسطينيين في القدس.
ويشير الرجبي إلى أنه في الوقت الراهن، تقيم في حي بطن الهوى نحو ثلاثين عائلة من المستوطنين، يُقدّر عدد أفرادها بأكثر من مائة شخص، وسط حي فلسطيني مكتظ بالسكان. هذا التغلغل الاستيطاني، المصحوب بحماية أمنية مشددة، حول الحي إلى ثكنة عسكرية مغلقة، إذ يتحرك المستوطنون تحت حماية حراس أمن خاصين وبمرافقة قوات من جيش الاحتلال، في ظل وجود دائم للدوريات المسلحة داخل الأزقة وبين المنازل، مما يفرض مناخا من الترهيب والضغط النفسي على السكان الفلسطينيين، ويقيد حركتهم اليومية ويهدد أمنهم الاجتماعي والإنساني.
القمع الممنهج لصوت الاحتجاج: تجريم التضامن وإسكات الرواية الفلسطينية
وفي مواجهة سياسات التطهير العرقي والتهجير القسري، واظب أهالي أحياء سلوان وسائر أحياء القدس، على تنظيم فعاليات تضامنية وإسنادية للمهددين بالإخلاء والمصادرة، وخاصة في سياق التصعيدات التي شهدتها المدينة في السنوات الأخيرة. وقد بلغت هذه التحركات ذروتها خلال هبة الشيخ جراح ومعركة "سيف القدس" في عام 2021، حين شكل التضامن الشعبي والميداني، إلى جانب الحملات الإعلامية والضغوط الدولية، قوة فاعلة دفعت الاحتلال إلى تجميد عدد من قرارات الإخلاء، أو تأجيلها مرحليا.
ويؤكد زهير الرجبي، رئيس لجنة حي بطن الهوى، أنه كان من المفترض أن تُقام في الحي خيمة اعتصام دائمة، على غرار تلك التي أقيمت في أحياء أخرى مثل البستان، لتكون منبرا للحراك الشعبي ومنصة لاستقبال وفود التضامن، بمن فيهم دبلوماسيون أوروبيون ونشطاء دوليون. إلا أن الوضع تغير جذريا بعد إعلان حالة الطوارئ في العام 2023، إذ فُرضت قيود أمنية مشددة تمنع إقامة أي شكل من أشكال التجمع أو الاحتجاج، بما في ذلك نصب خيمة، أو عقد فعالية تضامنية سلمية.
ويضيف الرجبي أن أي محاولة للتجمع باتت تُقابل بقمع فوري من قبل قوات الاحتلال، بما في ذلك هدم الخيام واعتقال المشاركين، تحت ذرائع "أمنية" لا تمت للواقع بصلة. ويرى أن هذه الإجراءات لا تهدف فقط إلى قمع التعبير عن الرفض الشعبي، بل تسعى إلى خنق الفضاء العام الفلسطيني، ومنع إيصال الرواية الفلسطينية إلى العالم، بل وتقييد القدرة على الحشد المحلي والدولي.
وخلال العام المنصرم، نفذ الاحتلال عملية هدم لخيمة الاعتصام المقامة في حي البستان منذ 15 عاما.
وفي هذا السياق، أشار عضو لجنة الدفاع عن أراضي سلوان فخري أبو دياب في لقاء مع صحيفة الحدث، إلى أن الاحتلال بدأ بهدم رموز الصمود في الحي، حيث كانت الخيمة تمثل رمزا للمقاومة والفعاليات التي ينظمها أهالي الحي والمتضامنون معهم ضد سياسة الهدم والتهجير والطرد. ومن خلال هذا الهدم، أراد الاحتلال إزالة عقبة مهمة قبل أن ينتقل إلى حسم مسألة هدم المنازل السكنية. ذلك بزعم أن هذه الأماكن كانت تحرض الناس على رفض مخططات البلدية. ولذلك، وصف أبو دياب عملية هدم الخيمة بأنها "هدم لرأس الصمود".
لقد كانت الخيمة، إلى جانب سكان الحي والمجاورين من أهل القدس، شاهدة على العديد من الزيارات التضامنية التي شملت القناصل والسفراء وممثلي المؤسسات الدبلوماسية والقانونية، بالإضافة إلى هيئات الأمم المتحدة. كما استقبلت الخيمة زيارات من شخصيات دولية بارزة، مثل الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر بعد انتهاء ولايته، ونائب الأمين العام للأمم المتحدة السابق، وفقا لأبو دياب.
وبحسب أبو دياب، فإنه في آخر خمس سنوات، زار أكثر من 200 حقوقي يمثلون القانون الدولي هذه الخيمة، بالإضافة إلى ستة أشخاص حاصلين على جائزة نوبل للسلام. وكانت هذه الخيمة تمثل همزة وصل بين حي البستان والمجتمع الدولي، ولذلك كان الاحتلال حريصا على إزالتها بسبب رمزيّتها.
الصوت كأداة مقاومة: دروس من هبّات القدس
تاريخيا، شكل العمل الجماهيري في القدس رافعة لمواجهة السياسات الاحتلالية، كما حدث في رمضان 2021، حين هبّ الفلسطينيون في القدس ضد القيود المفروضة على ساحة باب العامود، والاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى، وقرارات الإخلاء في حي الشيخ جراح. وقد أثارت هذه الهبة تفاعلا شعبيا واسعا في عموم الأراضي الفلسطينية، وانخراطا إعلاميا دوليا لافتا، دفع الاحتلال إلى تأجيل قرارات التهجير في عدد من المناطق.
وفي هذا السياق، أوضح فخري أبو دياب أن "تجميد أو تأجيل قرارات الإخلاء في السابق لم يكن ليحدث لولا الضغط الجماهيري الواسع والعمل الميداني الفعّال"، مشيرا إلى أن هذه القرارات تبقى مؤقتة بطبيعتها، إذ يعاود الاحتلال تفعيلها بمجرد تراجع وتيرة الصمود الشعبي، وهو ما نشهده اليوم بالفعل.
ويستذكر أبو دياب "النجاحات التي حققها الفلسطينيون في هبّات باب الأسباط، وباب الرحمة، وباب العامود"، مؤكدا أن تلك النجاحات كانت ثمرة الوعي والوحدة، والقدرة على تحويل التضامن إلى فعل ميداني مؤثر. وأضاف: "هذا الزخم الجماهيري الفاعل يغيب إلى حد كبير في السياق الحالي، ما يمنح الاحتلال هامشا أوسع لتنفيذ مخططاته".