مستنِداً إلى أطروحات كتابه "طريق الوهم"
استَندَت الدولة الصهيونيّة إلى التوراة كمرجع تاريخي أساسي لإضفاء الشرعيّة على ادعائها بــ"استعادة" فلسطين، باعتبارها الأرض التي يُزعم أن كياناً إلهيّاً وَعَد اليهود بها قَبْل آلاف السنين. من خلال هذا الادِّعاء، سعت الصهيونيّة إلى مَنْح مشروعها شرعيّة تاريخيّة وزخماً روحيّاً، ممّا جَعَل السَّرديّات الدينيّة جزءاً لا يتجزّأ من بنيتها الأيديولوجيّة.
علاوة على ذلك، وَظَّفت الحركة الصهيونيّة عِلم الآثار كأداة فعّالة في استراتيجيّتها منذ بداياتها. كان الهدف من دَمْج هذا المجال هو تعزيز الادِّعاء التاريخي من خلال البحث عن أدلّة أثريّة تُفسِّر أو تُثبِت الروايات التوراتيّة. شارَك في هذه الجهود علماء آثار يهود ومسيحيّون غربيّون، وُجِّهت أبحاثهم لاكتشاف وتفسير أدلّة أثريّة تتماشى مع السَّرد التوراتي، متجاهِلين في كثير من الأحيان الحقائق التي تتعارض مع هذا السَّرد. أدّى هذا النهج إلى ممارسة انتقائيّة في توثيق التاريخ، حيث تمَّ تضخيم العناصر التي تَخدم الرواية الصهيونيّة وتجاهُل الجوانب التي تناقضها. لم يكن الهدف من هذه الجهود مجرَّد توثيق علمي محايد، بل بناء أساس قانوني وتاريخي يَدعم المطالبة بفلسطين كــ"أرض الميعاد"، ممّا جَعْل عِلم الآثار وسيلة لتعزيز الأجندة السياسيّة الصهيونيّة على حساب التفسير الموضوعي للتاريخ.
أصبحَت الاستجابة الصهيونيّة ذات أهمِّـيَّـة خاصّة بعد نَشْر يوليوس فلهاوزن، عالِم الكِتاب المقدس وأستاذ عِلم اللاهوت، كِتابه المؤثِّر "Geschichte Israels" (تاريخ إسرائيل) عام 1878، والذي أُعيدت تسميته لاحقاً إلى "Prolegomena zur Geschichte Israels" (مقدِّمات لتاريخ إسرائيل). في كِتابه، قَدَّم فلهاوزن أطروحة ثوريّة تُفيد بأن قصص التوراة ليست سجلِّات تاريخيّة مباشرة، بل هي نتاج جهود مُتعمَّدة واستراتيجيّة قام بها الكهنة اليهود خلال فترة من الاضطراب وعدم الاستقرار. ووفقاً لفلهاوزن، فإن هذه الروايات لم تكن توثيقاً مباشراً للأحداث، بل صياغة مدروسة تهدف إلى تلبية احتياجات دينيّة وسياسيّة محدَّدة. ويرى أن الكهنة أَعدّوا هذه النصوص لتعزيز الهُويّة الجماعيّة للشعب اليهودي وتوحيده في مواجهة التحدِّيات الاجتماعيّة والسياسيّة التي واجهوها في ذلك الوقت (Wellhausen, 1878).
تقترح رؤية فلهاوزن، المعروفة باسم الفرضيّة الوثائقيّة (Documentary Hypothesis - DH)، أن التوراة لم تُكتب بواسطة مؤلِّف واحد، كموسى مثلاً، بل تتكوّن من أربعة مصادر مُستقلّة تمَّ دمجها لاحقاً في نص موحَّد. هذه المصادر هي:-
أولاً: المَصدر اليهوي (J - Yahwist “Jahwist” Source): يتميَّز هذا المَصدر باستخدامه لاسم "يهوه" (YHWH) للإشارة إلى الإله، ويتّسم بتركيزه على روايات شخصيّة تُبرِز علاقة وثيقة بين الله والبشر. كما ويتميَّز بأسلوبه القصصي الغني بالتفاصيل، ويُظهر الله كشخصيّة قريبة من البشر، تتفاعُل معهم بشكل مباشر.
ثانيّاً: المَصدر الإلوهيمي (E - Elohist Source): يَستخدم هذا المَصدر اسم "إلوهيم" للإشارة إلى الله، ويُزعم أنّه نشأ في مملكة إسرائيل الشماليّة. يتميَّز برؤية أكثر تجريداً لله وتجسيداً لله مقارَنة بالمَصدر اليهوي، حيث يُظهر الله كشخصيّة بعيدة عن التفاعُل المباشر مع البشر، ويتواصل معهم غالباً من خلال وسطاء مِثل الملائكة أو الأحلام.
ثالثاً: المَصدر التثنوي (D - Deuteronomist Source): يُعتبر هذا المَصدر القاعدة الأساسيّة لـسفر التثنية، ويركِّز على الشريعة والأخلاق. يُبرز أهمِّـيَّـة الالتزام بالعهد مع الله، ويرتبط بفترة إصلاحات الملك يوشيا في القرن السابع قَبْل الميلاد. يَعكس هذا المَصدر محاوَلة لترسيخ الالتزام الدّيني في سياق سياسي وديني مضطرب.
رابعاً: المَصدر الكهنوتي (P - Priestly Source): يُعتبر هذا المَصدر متميّزاً بتركيزه على الطقوس، والشعائر، والأنظمة الدينيّة، ويولي اهتماماً خاصاً بالكهنوت، والنقاء، والشرائع التفصيليّة التي تُنظِّم العبادة والعلاقات الاجتماعيّة. يُزعم أن هذا المَصدر تمَّ تأليفه خلال فترة السبي البابلي أو بعدها في القرن السادس قَبْل الميلاد، ويَعكس محاوَلة للحفاظ على الهُويّة الدينيّة للشعب اليهودي في المنفى.
تعود أُصول بعض قصص التوراة إلى ما قَبْل فترة السبي البابلي، وقد وَظَّفها الكهنة ببراعة لدعم أجنداتهم اللاهوتيّة والسياسيّة. من خلال هذه القصص، سعى الكهنة إلى ترسيخ سُلطتهم داخل المجتمع اليهودي وتعزيز نفوذهم على الممارَسات الدينيّة والشعائر. ولتحقيق ذلك، صَوَّروا أنفسهم كوسطاء بين الشعب والله، ممّا أضفى شرعيّة دينيّة على سيطرتهم وكَرَّس دورهم كمفسِّرين وحُماة للعقيدة.
كان لإسهام يوليوس فلهاوزن تأثيراً عميقاً على دراسات العهد القديم، حيث تحدَّت مقاربتُه الفكرةَ التقليديّة التي تَرى التوراة نَصّاً موحَّداً ومُلهَماً إلهيّاً. بدلاً من ذلك، اقتَرح فلهاوزن أن التوراة هي نتاج بشري تَطوَّر تحت تأثير عوامل تاريخيّة وسياسيّة معقَّدة. فَتحَت هذه الرؤية آفاقاً جديدة لفهم تَطوُّر الديانة الإسرائيليّة القديمة، مع التركيز على السياقات التاريخيّة التي أثَّرَت في تشكيل النصوص التوراتيّة.
ورغم المعارَضة الأوَّليّة التي واجهَتها نظريّاته، حَقَّقت أفكار فلهاوزن إجماعاً واسعاً بين الباحثين بفضل الأدلّة القويّة والتحليل الدقيق الذي قَدَّمه. وَجَد العديد من المؤرِّخين وعلماء الآثار أن تفسيره يقدِّم رؤية أكثر تماسُكاً ومنطقيّة لأُصول التوراة مقارنة بالنظريّات السابقة، خصوصاً في ظِلّ التطوُّرات التاريخيّة والاجتماعيّة التي مَرَّت بها المجتمعات اليهوديّة.
وقد تبنّى عدد من الباحثين المرموقين هذه الرؤية النقديّة، مُعزِّزين الفرضيّة الوثائقيّة بمزيد من التحليل النصّي والدليل التاريخي. من أبرز هؤلاء كان ريتشارد إليوت فريدمان في كتابه لعام 1987 ""Who Wrote the Bible?، حيث قدَّم دراسة معمَّقة لتطوُّر النص التوراتي وتعدُّد مصادره، مؤكِّداً أن التوراة ليست نتاج وحيٍ إلهيّ، بل حصيلة تراكميّة لتحريرات متعاقبة أمْلتها ظروف اجتماعية وسياسية متغيّرة.
كما قَدَّم إسرائيل فينكلشتاين ونيل آشر سيلبرمان في كتابهما لعام 2001 "The Bible Unearthed" مساهمة بارزة في هذا المجال، حيث جمعا بين عِلم الآثار والنقد الكتابي، مُبرِزين أن العديد من الروايات التوراتيّة قد كُتبَت خلال فترة العهد المَلكي أو بعد السبي البابلي، لا لتوثيق وقائع تاريخيّة، بل لخدمة أجندات سياسيّة ودينيّة تهدف إلى إعادة تشكيل الهُويّة الجماعيّة وتعزيز سُلطات دينيّة مستحدَثة.
بهذه المقاربات، تم تقويض الأساس التاريخي الذي طالما ادّعته الصهيونيّة، وإعادة النظر في النصوص التوراتيّة بوصفها إنتاجاً بشرياً مُسَيَّساً لا كتاباً سماوياً مُنزلاً.