قبل بضع سنوات، وعندما أعلن ترامب عن "صفقة القرن"، بدأ بعضنا يتساءل عن واقعية فكرة طرد من تبقى من الفلسطينيين مما تبقى من أرض فلسطين؟
كان معظم "المثقفين" يجد السؤال مفتعلاً مفتقراً إلى الجدية والواقعية: كان يبدو أن فكرة إقدام اسرائيل على الترحيل أو التطهير أو الإبادة أمراً غير وارد البتة. وقد كان جزء منهم يرد على قولنا بأن اسرائيل مارست التطهير سنة 48 بإجابات من قبيل أن ذلك الزمان الذي كانت البشرية فيه نائمة قد مضى وانقضى وأن العالم قد أصبح قرية صغيرة لا يمكن أن يحدث فيه مثل هذه "الكوارث الكبرى" دون أن تنتفض الدنيا وتضع حداً لما يحدث.
بعض الأصوات كانت تذهب إلى القول إن اسرائيل ليست راغبة أصلاً في تطهير الضفة أو غزة، وكان هؤلاء يدللون على صحة مذهبهم بواقعة أن اسرائيل ترعى السلطة الفلسطينية، وتتعاون معها، وذلك بذاته يجزم بأن فكرة تطهير الضفة غير مطروحة، وإن كان الاستيطان يتوسع باضطراد مع إصرار اسرائيلي على رفض فكرة الدولة الفلسطينية في الضفة مع استعداد معلن لقبولها في غزة المضاف إليها جزء من سيناء.
من جانبي كنت أعتقد دائماً أن "النظرية الواقعية" في السياسة تفسر على نحو دقيق سلوك الدول المختلفة، وفي حالة اسرائيل فإن حاجتها إلى أرض الضفة لا شك فيها، كما أن قوتها الفائضة لا بد أن تدفعها إلى الطمع في أرض الضفة وما ورائها بما في ذلك أراض سورية ولبنانية وأردنية ومصرية وربما عراقية أو سعودية.
كان رأيي مع مقدار من التردد وعدم اليقين أن عالم ما بعد تموز 2006 يفرض على اسرائيل درجة من الارتداع التي تمنعها من أخذ خطوة متهورة باتجاه الإبادة والتطهير. كان وجود المقاومة اللبنانية مع عمقها السوري/الإيراني إضافة إلى المقاومة في غزة ووعي الشعب الفلسطيني قياساً بالماضي يشكل الأساس الذي يمكن أن يجبر القيادة الصهيونية على تأجيل مشروع التطهير إلى وقت أكثر ملاءمة. وأقر في هذا السياق أنه لم يكن في حوزتي نظرياً أية تفسيرات أخرى لارتداع اسرائيل عن التطهير، وعلى الرغم من وجاهة الاعتراضات التي كانت تنتقص من قدرات سوريا، إلا أنني كنت أتوهم أن وجود الممانعة السورية يشكل مع التهديد الجدي للمقاومة اللبنانية رادعاً لا بأس به. كتبت هذا الرأي في مقالات عدة طوال العقد الماضي، وكانت تهدف إلى التفسير من ناحية، وإلى الدفاع عن الدولة السورية بعدها أفضل ما هو ممكن في عالم العرب الراهن.
لا أعرف حقاً ما إذا كان انهيار الدولة السورية واستبدالها بنظام خاضع للهيمنة الصهيوأمريكية وتكسير ضلوع المقاومة اللبنانية التي اضطرت أن تنكفئ على هم المحافظة على الذات، يشكلان المفتاح الذي يفسر تدشين الهجمة الواسعة للتطهير في غزة والضفة على السواء. قد يكون هناك عناصر أخرى أسهمت في تشجيع صانع القرار الصهيوني: على سبيل المثال حالة التثاؤب الشعبي في البلاد العربية وأرياح الدنيا الأربع أو السبع، إضافة إلى جماهير فلسطين في الضفة وغزة والشتات ذاتها، ناهيك عن عدم اكتراث القوى الدولية المختلفة بما في ذلك دول وازنة كان يمكن لها أن تغير اتجاه الأمور من قبيل الصين وروسيا.
للأسف وصلت الأمور بالعالم إلى درك سفلي يتفرج فيه حرفياً على مأساة فلسطين، ويمر على الجرائم اليومية البشعة بحق الأطفال والكبار العزل التي يقتل فيها يومياً ما معدله مئة شخص، مع جرح المئات دون أن ينزعج أحد باستثناء أصوات شجاعة محدودة مثل المقررة الأممية العظيمة فرانشيسكا البانيز التي تتعرض للعقوبات الأمريكية في الوقت الذي يتم فيه رفع العقوبات عن قاتل محترف ملطخ بالدم من رأسه حتى أخمص قدميه اسمه أبومحمد الجولاني، الذي يتحول بمباركة نتانياهو وترامب إلى الرئيس السوري أحمد الشرع.
نعم يتضح من اللوحة الراهنة في غزة والضفة أن العالم يعيش من جديد أيام القرون 17 و18 و19 عندما كانت الإبادة ممكنة ما دام هناك قوة كافية لتنفيذها، ويبدو أن سقوط سوريا وتحجيم المقاومة اللبنانية قد فتح الباب على مصراعيه لإعلان أهداف المشروع الصهيوني في وضح النهار، وليس لدينا من شك أنه في حال تمكن الصهيوأمريكي من تحجيم اليمن وايران وإخراجهما من الصراع، فإن عملية الترانسفير الواسع ستنفذ فوراً ولن يوقفها أي نظام عربي حتى لو كان اللاجئون سيتدفقون على بلاده بالذات.