الخميس  24 تموز 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

اقتصاد غير مرئي واستقلالية غائبة: قراءة جندرية لواقع العمل في فلسطين.| بقلم: أ لما عواد

2025-07-23 07:17:10 AM
اقتصاد غير مرئي واستقلالية غائبة: قراءة جندرية لواقع العمل في فلسطين.| بقلم: أ لما عواد
لما عواد

شهد العالم تحولات كبيرة في أنماط العمل، لا سيما مع انتشار جائحة كوفيد-19 التي ساهمت في تسريع التحول نحو العمل من المنزل، أو ما يُعرف بـ العمل عن بُعد. في الوقت ذاته، لا يزال العمل المنزلي، الذي تقوم به النساء غالبًا داخل الأسر من رعاية وتنظيف وطهي، يُنظر إليه كواجب غير مدفوع الأجر، رغم أهميته في دعم الاقتصاد والمجتمع. في السياق الفلسطيني، تبرز تحديات وفرص متشابكة تتعلق بكلا النمطين من العمل، تستدعي وقفة تحليلية نقدية.

تعريف وتمييز بين المفهومين

العمل من المنزل (Remote Work):  هو ممارسة المهام الوظيفية أو المهنية من المنزل باستخدام أدوات الاتصال الرقمية، وغالبًا ما يكون بدخل رسمي أو بموجب عقد مع جهة عمل.

العمل المنزلي (Household Work):  هو العمل غير مدفوع الأجر الذي يُنجز داخل المنزل، مثل التنظيف، الطبخ، رعاية الأطفال والمسنين، ويُعتبر ضمن ما تُسميه الأدبيات الجندرية بـ"الاقتصاد غير المرئي".

الوضع الفلسطيني – بين الواقع الرقمي والثقافة الاجتماعية.

العمل من المنزل: إمكانيات مقيدة.

رغم وجود مؤشرات على تزايد فرص العمل عن بعد في فلسطين، خاصة في مجالات التكنولوجيا، التصميم، الترجمة، والتعليم الإلكتروني، إلا أن عدّة عوائق لا تزال تحدّ من انتشاره:

  • البنية التحتية التكنولوجية الضعيفة، خاصة في المناطق الريفية والضفة الغربية.
  • ضعف الثقافة المؤسسية التي ما زالت تربط الإنتاجية بالحضور المكاني.
  • غياب تشريعات واضحة تحمي العاملين/ات عن بُعد، سواء من حيث ساعات العمل، الأجور، أو التأمينات.
  • التفاوت الجندري في الوصول إلى هذه الفرص، حيث تستفيد منها غالبًا الفئات المتعلمة والحضرية.

وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (2023)، فإن نسبة النساء العاملات عن بُعد من مجموع النساء العاملات لا تتجاوز 6%، مقارنة بـ 12% من الرجال، مما يعكس الفجوة في الوصول إلى هذه الفرص الرقمية.

العمل المنزلي: عبء غير معترف به.

في السياق الفلسطيني،  يُعد العمل المنزلي مهمة "طبيعية" تُسند للنساء، وتُعتبر امتدادًا لدور الأم والزوجة، لكن هذا التوصيف يخفي حجم الجهد المبذول، ويؤدي إلى:

  • عدم احتساب هذا الجهد في الناتج المحلي الإجمالي.
  • ازدواجية الأدوار بالنسبة للنساء العاملات (عمل مدفوع + عمل منزلي غير مدفوع).
  • استغلال ضمني لجهود النساء في ظل غياب خدمات رعاية عامة (مثل حضانات حكومية أو رعاية مسنين).

وفقا لإحصاءات الجهاز المركزي (2023) إلى أن النساء في فلسطين يقضين في المتوسط 4.7 ساعات يوميًا في أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، مقابل 0.9 ساعة فقط للرجال.

التداخل بين النمطين – أعباء إضافية أم فرص تحرّر؟

في كثير من الحالات، لا يؤدي العمل من المنزل إلى تخفيف العبء، بل يضاعف الضغط، خاصة على النساء:

  • تعمل المرأة من المنزل لساعات طويلة، بينما تقوم بالأعمال المنزلية ورعاية الأطفال في الوقت ذاته.
  • تذوب الحدود بين "العمل المهني" و"العمل المنزلي"، مما يؤثر على الصحة النفسية والإنتاجية. وفي دراسة عبّرت 68% من النساء اللاتي يعملن من المنزل عن شعور بالإرهاق والتوتر نتيجة تضاعف الأعمال غير المدفوعة خلال العزل المنزلي الناتج عن جائحة كوفيد‑19 (UN Women, 2020).

ومع ذلك يمكن أن يشكل العمل من المنزل فرصة للنساء في المناطق التي يصعب عليهنّ الوصول فيها إلى سوق العمل التقليدي، إذا ما توفرت البيئة المناسبة.

التقسيم الجندري للعمل – بنية الهيمنة واللامساواة.

يُعد التقسيم الجندري للعمل أحد الركائز الهيكلية التي ترسّخ عدم المساواة القائمة على النوع الاجتماعي، لا سيما في السياق الفلسطيني حيث تستمر الأدوار النمطية في تحديد من يعمل، وأين، وبأي مقابل. وكما تشير العديد من الدراسات الاقتصادية الجندرية، فإن هذا التقسيم لا يقتصر على كونه غير عادل، بل يُستخدم كأداة فعالة في تكريس تبعية النساء اقتصاديًا، ويحد من فرصهن في الوصول إلى التعليم، المشاركة السياسية، والعمل في المجالات التقنية أو الصناعية أو السياسية.

هذه الأدوار المحددة تساهم أيضًا في ترسيخ هياكل السلطة الأبوية، مما يعزز من تفوق الرجال في سوق العمل المدفوع، بينما تبقى النساء محصورات في دائرة العمل غير المأجور وغير المعترف به، بما في ذلك في البيوت الفلسطينية. ويظهر ذلك جليًا في غياب سياسات داعمة مثل إجازات الأبوة، خدمات رعاية الأطفال، أو الاعتراف القانوني بالعمل المنزلي كمساهمة اقتصادية.

نحو عدالة رقمية وجندرية.

  1. الاعتراف بالعمل المنزلي كجزء من الاقتصاد، وإدماجه في السياسات العامة والإحصاءات الوطنية.
  2. وضع أطر قانونية للعمل عن بعد، تضمن الأجر العادل وبيئة عمل لائقة وتحترم الخصوصية.
  3. تعزيز البنية التحتية الرقمية في المناطق المهمشة.
  4. تمكين النساء في مجالات التكنولوجيا والعمل الحر عبر الإنترنت، من خلال التدريب والدعم التقني.
  5. إعادة توزيع الأدوار المنزلية داخل الأسرة، كجزء من تغيير ثقافي يضمن عدالة جندرية حقيقية.

تهميش أعمال الرعاية وإعادة إنتاج اللامساواة.

يشكل العمل في مجال رعاية الأطفال، كبار السن، وإدارة شؤون المنزل أحد الأعمدة الأساسية لاستمرار الحياة الاقتصادية والاجتماعية، لكنه لا يُعامل كذلك في المنظومات الاقتصادية التقليدية. في السياق الفلسطيني، حيث تتحمل النساء غالبًا مسؤولية الرعاية غير المدفوعة داخل المنازل، تُقابل هذه المهام بتقليل في القيمة والاعتراف، ما يضعف من قدرة النساء على المشاركة المتساوية في سوق العمل.

هذا النوع من العمل، سواء كان غير مدفوع أو مدفوعًا بأجر منخفض، يُعد تعبيرًا عن الفصل الجندري للعمل، ويعكس نظرة تعتبر أن المهام الرعائية "طبيعية" للنساء، وبالتالي لا تستحق الاعتراف أو الأجر العادل. وإن اقتصار فرص بعض النساء على العمل المنزلي المدفوع لا يمنحهن استقلالية، بل يعمّق تهميشهن الاقتصادي، ويُعيد إنتاج علاقات القوة غير المتكافئة داخل الأسر والمجتمعات.

هذا التهميش لا يقتصر على الجانب الاقتصادي، بل يمتد إلى حرمان النساء من أشكال التقدير الاجتماعي، والقدرة على اتخاذ القرار، لا سيما في غياب الحماية القانونية والتنظيم النقابي للعاملات في قطاع الرعاية المنزلي المدفوع، سواء كنّ عاملات بشكل رسمي أو ضمن الاقتصاد غير الرسمي.

غزة كنموذج لإعادة التفاوض حول أدوار الرعاية والإعالة.

في قطاع غزة، حيث تعمّقت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بسبب الحصار والعدوان المتكرر، نشأت أنماط بديلة للعمل والتكافل داخل العديد من الأسر. لعبت النساء دورًا مركزيًا في إعادة إنتاج الحياة رغم انقطاع الموارد، حيث انخرطن في أنشطة إنتاجية صغيرة من داخل المنزل، مثل الخياطة، الطهي، التعليم عبر الإنترنت، والعمل الحر الرقمي.

في هذا السياق، شهدت بعض الأسر إعادة تفاوض على توزيع الأدوار بين أفرادها، ما شكّل تحولًا جزئيًا في بنية الرعاية والإعالة التقليدية.

 وبذلك، يمكن لغزة أن تمثّل نموذجًا بديلًا لإعادة توزيع العمل والرعاية في ظل استمرار حرب الإبادة والتجويع، من خلال:

  • تعزيز الاقتصاد المجتمعي والرعاية المشتركة.
  • توسيع فرص العمل المنزلي المأجور المرتبط بالمنصات الرقمية.
  • دعم السياسات التي تعزز مشاركة الرجال في الرعاية، وتدعم النساء كمقدمات دخل أساسيات.

إن النظر إلى غزة ليس فقط كمنطقة منكوبة، بل كبيئة ابتكارية قسرية، يساعد في إعادة تخيّل سياسات الرعاية والإعالة العادلة.

إن مقاربة العمل من المنزل والعمل المنزلي في السياق الفلسطيني تكشف عن تشابك العوامل الاقتصادية والثقافية والجندرية. وبينما يحمل العمل من المنزل إمكانيات واعدة، لا يمكن اعتباره تقدّماً حقيقياً دون الاعتراف بالعبء المزدوج الواقع على النساء، وإعادة توزيع الأدوار والرؤى المجتمعية المتعلقة بالعمل، أكان مدفوعًا أم غير مدفوع.

كما تظهر غزة كحالة خاصة يمكن الاستفادة منها كنموذج لإعادة التفاوض المجتمعي على أدوار الرعاية والإعالة في ظروف الهشاشة.

____________________________________________________________

* الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (2023) المرأة والرجل في فلسطين: قضايا وإحصاءات.   https://www.pcbs.gov.ps.

* الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (2023). المسح العنقودي متعدّد المؤشرات (MICS): المرأة والرجل في فلسطين. رام الله – فلسطين . https://www.pcbs.gov.ps

https://arabstates.unwomen.org/en/news/stories/2020/06/feature-voices-of-palestinian-women-under-covid-19-lockdown?utm_source

(PCBS). (2023). The Palestinian Labour Force Survey - Annual Report. https://www.pcbs.gov.ps/ Palestine. Retrieved