السبت  19 تموز 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

بين نيران الطائفية ومخالب التدخل.. السويداء ساحة لتصفية الحسابات للأسف/ بقلم: توفيق العيسى

2025-07-18 08:07:45 PM
بين نيران الطائفية ومخالب التدخل.. السويداء ساحة لتصفية الحسابات للأسف/ بقلم: توفيق العيسى

في قلب الجنوب السوري، حيث الجغرافيا تروي حكايات المقاومة والصمود، تقف السويداء اليوم أمام مفترق تاريخي حاد، بين نار الفتنة الطائفية التي يراد إشعالها، وخطر التدخلات الإسرائيلية التي تتربص بالفرصة، وألم الضحايا الذين يُستهدفون بدم بارد دون أن يجدوا من يرد عنهم السكاكين.

الفتنة التي يراد بعثها ليست قدرا، ولا تعبّر عن جوهر العلاقة التاريخية بين مكونات المجتمع السوري، بل هي صناعة ممنهجة، تستهدف تحويل الضحية إلى جلاد والجلاد إلى منقذ. حين يتعرض أبناء الطائفة الدرزية في السويداء للاضطهاد أو الاستهداف – سواء أكان ذلك من قبل أجهزة أمنية أو قوى أمر واقع أو جهات عشائرية خارجة عن القانون – فإن التضامن معهم لا يكون طائفيا، بل وطنيا، وإنسانيا. كما أن رفض الانتقام العشوائي، أو تحميل مكون بأكمله وزر تصرفات مجموعات مسلحة أو جهات مدفوعة بأجندات خفية، هو أمر أساسي للحفاظ على نسيج سوريا الاجتماعي الذي أريد له أن يتمزق منذ لحظة الثورة الأولى.

ما تتعرض له بعض العشائر البدوية في محيط السويداء من استهداف جماعي أو وصم طائفي ليس أقل خطورة. إن محاولة تحميل "البدوي" كهوية جماعية مسؤولية الفوضى، أو التعامل مع قرى بأكملها على أنها "خلايا إرهابية" أو "مستودعات للخطف"، إنما يغذي رواية طالما سعت لتفتيت المجتمع على خطوط الدم والهوية.

الضحية واحدة، والقاتل متعدد

في مشهد معقد كالسوري، ليس هناك قاتل واحد، بل مشروع متكامل من القتل. ضحية درزية تُغتال باسم الدولة أو الثأر أو الانتقام، وقرية بدوية تُستهدف بالحرق أو التهجير أو التشهير، وبينهما صمت من الدولة، وتواطؤ من أجهزتها، وتحريض خارجي لا ينام. هنا، لا بد من موقف أخلاقي واضح: لا أحد يستحق القتل بسبب انتمائه، ولا يجوز الانتقام الجماعي، ولا يجب السماح لأحد – أيا كان – أن يتلاعب بالدم السوري ليصنع حدودا جديدة بالرصاص.

المشروع الإسرائيلي: الحضور حين تنكسر الجدران

في هذا المناخ المسموم، تلوح إسرائيل من بعيد – أو من قريب – تطرح نفسها حامية لطائفة أو منقذة لإقليم. تحاول استدراج بعض الدروز إلى فكرة "الحماية الدولية"، وتغذي سرديات عن "حق الدفاع عن النفس"، وتسعى إلى خلق ما يشبه "الحزام الآمن" عند سفوح جبل العرب. هذه محاولات لا تختلف كثيرا عن تلك التي قُدمت في الجنوب اللبناني قبل عقود، وانتهت إلى دويلة عميلة تقاتل من أجل تل أبيب لا من أجل قراها.

هنا، يجب التفريق بين وجع الدروز المشروع، وغضبهم النبيل، وبين تحويلهم إلى أداة في مشروع صهيوني طالما حلم بتقسيم سوريا على أسس طائفية. ومن يسعى للاستقواء بإسرائيل لا يفعل ذلك باسم الطائفة، بل باسم أجندة لا تعبر إلا عن ذاتها المنفصلة عن عمق الجبل وتاريخه في مقاومة الاحتلال.

في المقابل، بعض المجموعات العشائرية التي تتحدث اليوم عن "فرض سيادة الدولة" و"الرد على الاعتداءات" هي في أغلب الأحيان واجهات لأجهزة أمنية، أو ميليشيات مدعومة، تسعى إلى فرض معادلة القوة لا العدالة. فهل يا ترى، إذا ما قررت إسرائيل التدخل العسكري المباشر – عبر ضربات أو دعم لفصائل انفصالية – هل ستقف هذه العشائر في وجهها؟ أم ستكتفي بتصفية الحسابات المحلية تحت شعار "فرض النظام"؟ إن الجواب ليس بحاجة إلى تحليل، بل إلى مرآة.

ما تحتاجه السويداء اليوم – وكل سوريا – ليس مزيدا من الاصطفافات، بل خطابا وطنيا إنسانيا يقول بوضوح: لا للثأر، لا للوصم، لا للميليشيات، لا للتدخل الخارجي، نعم للعدالة، نعم للمحاسبة الفردية، نعم للدولة العادلة لا الدولة الأمنية.

كما أن من واجب القوى الوطنية السورية، في الداخل والخارج، أن تصطف خلف الضحية لا خلف السكين؛ خلف أهل الجبل الذين خرجوا في انتفاضاتهم بكرامة، وخلف القرى البدوية التي تحملت التشريد والتهميش، لا خلف الغرف السوداء التي تخطط من دول عدة.

الفتنة تُصنع حين نصمت. والعدالة تبدأ حين نقول لا لكل من يحمل السلاح ليفرض روايته. في السويداء، لا نريد جيشا للدولة يقتل المدنيين، ولا عشائر تتحرك كجيوش، ولا احتلالا يتسلل بغطاء الحماية. نريد عدالة تبدأ من اعترافنا بالضحية، وإنهاء منطق الاستفراد.

دروز فلسطين... حين يُختزل الانتماء في البندقية

ولأن المشروع واحد وإن اختلفت الجبهات، فإن ما يراد للدروز في السويداء اليوم، من تحويلهم إلى أداة مسلحة في يد مشروع خارجي، يعيد إلى الأذهان النموذج المفروض قسرا على الدروز الفلسطينيين في الداخل المحتل.

فمنذ سنوات النكبة الأولى، حاولت إسرائيل أن تفصل الدروز عن هويتهم العربية الفلسطينية، عبر فرض الخدمة العسكرية الإلزامية عليهم، وإيهامهم بأن ولاءهم للدولة المحتلة سيمنحهم مكانة أو امتيازا. لكن الواقع كشف زيف هذه المعادلة.

فالدروز الذين خدموا في جيش الاحتلال وجدوا قراهم – كبقية القرى الفلسطينية – مهمشة، بلا بنى تحتية، ولا فرص اقتصادية، ولا تمثيل سياسي حقيقي. لا في عسفيا، ولا دالية الكرمل، ولا بيت جن، بل إن الدولة التي دفعتهم إلى البندقية، حاصرتهم في مربعات "الولاء الأمني" وحرمتهم من حقهم في التعبير السياسي الحر.

والأخطر أن الأصوات الرافضة لهذه المعادلة، من شباب فلسطينيين " دروز"  اختاروا مقاطعة الخدمة في الجيش، من حركة "أرفض"، تعرضوا للملاحقة والسجن والشيطنة، فقط لأنهم قالوا "لا" لبندقية لا تحمي الكرامة، بل تُشهر في وجه أهلها.

وليس الدروز وحدهم من وُضعوا في هذا القيد، بل كذلك أبناء عشائر بدوية فلسطينية، خُدعوا بذات الوعود، وقدموا كقوة نارية رخيصة للاحتلال، ليكتشفوا لاحقا أن الولاء لا يصنع مواطنة، وأن الدم لا يشتري حقوقا، وأن الدولة التي ترسل أبناءهم إلى الحروب، تترك قراهم بلا كهرباء ولا مدارس.

إن هذا النموذج – نموذج العزلة المدفوعة بالبندقية – هو ما يجب كسره في السويداء قبل أن يتجذر، وقبل أن نرى الدروز هناك يُدفعون إلى ذات المصير: قوة نارية لا صوت لها، لا قرار، لا كرامة سياسية، ولا حقوق عادلة.

علينا أن نتعلم من التجربة الفلسطينية، لا أن نكررها. وأن نفهم أن من لا يحترم الدروز في فلسطين، لن يحترمهم في سوريا. وأن من يريدهم رماة على جبهة الآخرين، لا يراهم شركاء في المصير، بل أدوات في مشروع استعمار جديد بثوب طائفي.

لهذا، لا بد أن يكون صوتنا مع الضحية، ومع العدالة، وضد التوظيف الطائفي لأي مكون كان. فالمعادلة واحدة: من لا يحترمك كمواطن، سيستخدمك كجندي... ثم ينسى قبرك في صمت.