"إحم إحم... رز ولحم"—عبارة شعبية بسيطة، متداولة في أعراسنا ومجالسنا والمناسبات بنبرة مرحة، لكنها، في السياق الفلسطيني، تتجاوز المزاح ، لتتحول إلى عنوان ساخر لوطن ينتظر مائدته منذ عقود وصرخة خافتة في حنجرة مواطن يعيش الجوع السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
في فلسطين، لا يُقدَّم "الرز واللحم" على موائد الرفاه، بل يُستدعى كمجاز للحلم المعلّق، والحق المؤجّل، والكرامة المنقوصة. "إحم إحم" لم تعد مجرد همهمة خجولة، بل أصبحت لغة للصمت المقهور، للطلب المغلف بالخجل، وللوجع المغلف بالطرفة.
الرز... بند من بنود البنك الدولي.
الرز؟ هو الأمن الغذائي المفقود، فنصف الشعب تحت خط الفقر، والنصف الآخر يتأرجح على الحافة، هو الرغيف المكسور في يد عامل يومي، و"العدس" الذي يُقدَّم في العيد، هو الأم التي تحسب وجبة أطفالها بالحصة، وتعدّ المعكرونة حبّة حبّة، والمواطن الذي يقارن أسعار الغاز بدل أن يبحث عن وصفات جديدة، فالرز لم يعد طبقًا، بل معادلة للنجاة.
اللحم... مشهد من بمشهد وثائقي.
اللحم؟ هو رمزًا للكرامة والكرم وحسن الضيافة ... دعوة عائلية لشواء في فصل صيف. اليوم؟ بات اللحم ترفًا بعيد المنال، لم يعد وجبة، بل أمنية... ومادة ساخرة في منشورات الفقراء.
"إحم إحم"... هي قصة وطن، لصوت من لا صوت لهم.
هذا النداء المراوغ بات الصوت الأكثر صدقًا في زحمة الخطابات، هو صوت المزارع العالق خلف البوابات والمعابر، صوت العامل الذي فقد صوته في طابور البحث عن لقمة العيش، "إحم إحم... رز ولحم!" تتجسد كمشهد مرير، كصوت خافت من خلف الستار، ينادي على مائدة غائبة، على نصيب لم يصل، وعلى حق مسلوب.
حقوقنا... وليمة مؤجلة
الرز واللحم رمزان لحقوق إنسانية أساسية: الكرامة، الأمن، العدالة الاجتماعية، والمستقبل. حقوق يُفترض أن تكون "الطبق اليومي" لكل شعب، لكنها عند الفلسطينيين صارت وليمة معلّقة، منسية، أو محصورة في يد المحظوظين.
في وطن أثقلته السياسة، ونغّصته المساعدات المشروطة، تحوّلت المطالب البسيطة إلى مواقف خطرة، صار الضحك مقاومة، والسخرية نشيدًا وطنيًا غير معترف به .
"إحم إحم"... حين يصير الهمس لغة وطن.
"إحم إحم"...؟ هي ليست دعوة لطعام، بل نداء ضمني لكل ما لم نعد نحصل عليه، كرامة مستترة، وعدالة مؤجلة، واستقرار مفقود. فكلنا اليوم تحت وطأه "إحم إحم"، وكلنا أصبحنا "رز ولحم"، لكن الوليمة لا تصل.
رز اليوم؟ بند في تقرير البنك الدولي.
لحم اليوم؟ حلم مؤجل إلى إشعار غير معلوم.
"إحم إحم... رز ولحم" مرآة مشروخة لمجتمع يتنفس على دفعات، ويحلم بطبق حياة كاملة، إنها لغة جيل يطالب بحقوقه بلغة الطرفة، لأنه تعب من البيانات.
إحم إحم" اليوم هو مجاز الجوع وحنين الوليمة وصوت الحلم المكبوت.
مطالبة خجولة بحق بديهي في واقع وقح.
رمز للغبن المغلّف بالطرفة، والأمل المغلف بالخذلان.
" نريد رزًا نطبخه، لا نكتبه في منشورات ساخرة.
ولحمًا نتذوقه، لا نصفه كمجاز للشبع النفسي.
نعيش بين الحلم والواقع، بين ما نستحقه وما يُؤجل، بين ما نريده وما نرضى به على مضض.
في بلادنا، كل شيء صار "أحم أحم"— نصف صوت، ونصف رغبة، ونصف حياة.
ونختصر أشواقنا إلى الأمن، الحب، الاستقرار... بطبق رز ولحم لم يصل.
إنها سخرية مشحونة بالحب، بالكرامة، وبعناد لا يموت.
لأننا نؤمن، رغم كل شيء، أن يومًا ما، لن يكون "إحم إحم" نداء خافتًا، بل نشيدًا صاخبًا بحياة تستحق أن تُعاش بشهية كاملة.