في لحظة سياسية غارقة في الرماد والدم، يطلّ قرار الانتخابات الفلسطينية، ليس كحدث وطني جامع، بل كاستحقاق حمّال أوجه يُطرح في سياقٍ غير بريء.
دعوة الرئيس محمود عباس لإجراء انتخابات مجلس وطني قبل نهاية عام 2025 تأتي في توقيت دقيق؛ بعد ما يزيد عن عام ونصف من حرب الإبادة على غزة، ومع تزايد الحديث عن "اعترافات" أوروبية بدولة فلسطينية.
لكن ما الذي يُراد فعليًا من كل ذلك؟ ومَن يكتب السطر القادم من الرواية الفلسطينية: الشعب أم العواصم؟
الاعترافات الغربية: دبلوماسية لتبرئة الذات أم مشروع هندسة سياسية؟
باريس ولندن تتقدمان الصف في الحديث عن اعتراف قادم بدولة فلسطينية.
لكن الاعتراف الذي لا يوقف حربًا، ولا يفرض محاسبة، ولا يضمن إنهاء الاحتلال، هو في جوهره ليس مكسبًا وطنيًا، بل غطاء تجميلي لأدوار متواطئة.
الاعترافات تأتي بالتزامن مع استمرار الغرب في تسليح إسرائيل.
المطلوب سلطة فلسطينية قابلة للتوظيف، لا دولة ذات سيادة.
الاعترافات تُستخدم لإنقاذ صورة الغرب أمام مجتمعاته، بعد افتضاح صمته وتواطئه في الحرب على غزة.
ليست دولة تُبنى، بل شرعية تُمنح للسلطة القائمة، شريطة أن تبقى ضمن حدود اللعبة الدولية.
من استهداف المقاومة إلى استبعادها: الانتخابات كامتداد للمعركة
المعركة على غزة لم تكن فقط عسكرية، بل سياسية بامتياز.
فقد أُطلقت يد إسرائيل في محاولة "سحق" حماس، بينما تهيأت أوساط عربية وغربية لمشروع موازٍ في الضفة: ترتيب البيت الفلسطيني من جديد، لكن بشروط إقصائية محكمة.
الفقرة السابعة من قرار تشكيل اللجنة التحضيرية تشترط الالتزام ببرنامج منظمة التحرير و"الشرعية الدولية"، ما يعني عمليًا إقصاء كل فصيل يحمل موقفًا نقديًا من اتفاق أوسلو أو مشروع المفاوضات.
لا حديث عن إعادة بناء للمنظمة كإطار جامع، بل عن إعادة توظيفها لتثبيت قيادة بعينها.
السلطة التي عجزت عن مواجهة المقاومة سياسيًا، تحاول اليوم استثمار نتائج الحرب لحرمانها من الحضور السياسي.
توقيت مشبوه: انتخابات على أنقاض شعب منكوب
أن تُدعى جماهير غزة المحاصَرة والمجوَّعة والمقصوفة، للتصويت تحت غبار القصف ورائحة الدم، هو قمة الانفصال السياسي عن الواقع.
الانتخابات تُطرح كأنها حل، بينما هي في هذه اللحظة جزء من تعميق الانقسام.
الحديث عن صندوق الاقتراع يُستخدم لتجاوز المجازر، لا لمساءلتها أو إنهائها.
وكأن المطلوب أن يبرّر الصندوق ما لم تبرّره الطائرات: إقصاء المقاومة باسم "الديمقراطية".
من المستفيد؟
المشهد الراهن يكشف عن خارطة مصالح واضحة.
إسرائيل هي المستفيد الأكبر، إذ تُمنح شرعية جديدة لدولة فلسطينية مفصلة على مقاسها، بلا مقاومة، بلا شروط، وبلا سيادة حقيقية.
أما العواصم الغربية، فتسعى إلى إنقاذ سمعتها أمام شعوبها، عبر اعتراف شكلي لا يكلّفها شيئًا سياسيًا، لكنه يبيض سجلها المتواطئ في الحرب.
السلطة الفلسطينية بدورها تحصد شرعية مجددة، دون تغيير في بنيتها أو برنامجها، وبلا خصوم فعليين في المشهد السياسي.
ويبقى الشعب الفلسطيني، في غزة والضفة والشتات، هو الخاسر الوحيد: يُستثنى من القرار، ويُطلب منه تصديقه.
الانتخابات ليست غطاءً للفراغ السياسي
الانتخابات، حين تُفصَّل لتقصي من يختلف، وحين تُدار بلجان تابعة، وحين تُحدَّد شروطها بقرار فوقي دون توافق وطني، لا تعبّر عن الديمقراطية، بل عن مشروع لإعادة إنتاج سلطة منزوعة المعنى.
ما يجري ليس إعادة بناء للمؤسسات، بل تأكيد على دورها الوظيفي في إدارة الأزمة، لا قيادتها.
ما العمل؟ خارطة ممكنة للخروج من المأزق
- وقف أي عملية انتخابية قبل تحقيق توافق وطني شامل يُعيد تعريف الشرعية من جديد.
- رفض أي اشتراطات دولية تحمّل الفلسطينيين وحدهم ثمن "السلام".
- إعادة بناء منظمة التحرير على أسس وحدوية تشاركية، لا عبر لجان فوقية بمرجعية واحدة.
- اعتبار وقف حرب الإبادة على غزة أولوية لا تُتجاوز، قبل التفكير في إعادة ترتيب الداخل.
- تحويل الانتخابات من أداة لإقصاء المقاومة، إلى وسيلة لتمثيل كل الشعب، بكل أطيافه وخياراته السياسية.
خاتمة: شرعية الدم لا تُختزل في شرعية الورق
الاعترافات التي لا توقف المجازر ليست دعمًا، بل تواطؤا.
والانتخابات التي تُقصي، وتُدار من فوق، لا تُنتج شرعية... بل تُعيد تدويرها.
إن كانت هناك جدية في إعادة بناء البيت الفلسطيني، فلتبدأ من وقف الحرب على غزة، لا من فوق أنقاضها.
وليبنَ الداخل بيد أبنائه، لا برعاية من خذلوه ساعة المحنة.