للشهر الثالث على التوالي، يحتجز وزير المالية الإسرائيلي "سموتريتش" إيرادات المقاصّة الفلسطينية كافّة، ولا يبدو في الأفق موعد معين لتحويل تلك الإيرادات، رغم كل الحديث عن ضغوط دولية من أجل تحويلها، وهنا لا يدور الحديث عن حوالي (9.5) مليار شيكل محتجزات منذ العام 2019 ولغاية الان، أو عن كامل إيرادات المقاصّة الشهرية والتي تصل الى حوالي (900) مليون شيكل، وانما عمّا يتم تحويله من إيرادات المقاصة بعد الاقتطاعات المختلفة غير القانونية، ومع ذلك لم يتم الافراج عن تلك المستحقات، وهي المرّة الأولى التي يتم احتجاز كافّة إيرادات المقاصّة بشكل مستمر منذ حرب الإبادة الإسرائيلية والحصار الاقتصادي بعد السابع من أكتوبر 2023، حيث تم خلال العامين السابقين حجز جزء من إيرادات المقاصة بدل مخصصات أسر الشهداء والأسرى، ومخصصات قطاع غزة التي تنفقها السلطة الفلسطينية على خدمات التعليم والصحة والحماية الاجتماعية في قطاع غزة، والتي تبلغ حوالي (275) مليون شيكل شهرياً، واقتطاعات بدل صافي الإقراض، وغيرها، ومع ذلك كان يتم تحويل ما تبقى من إيرادات المقاصّة، أو أن يحتجز كامل المبلغ ومن ثم تحويله.
وعمليا إيرادات المقاصّة هي العنصر الحاكم في الإيرادات العامة في فلسطين، وتشكل حوالي 68% منها، بسبب اختلالات تراكمية في هيكل الاقتصاد الفلسطيني، ومعادلة الميزان التجاري، والاعتماد المفرط على الاستيراد إن كان من إسرائيل أو عبر إسرائيل من الدول الأخرى كتركيا والصين، وأيضا بسبب قيود بروتوكول باريس الاقتصادي، وعدم سيطرة السلطة الفلسطينية على المعابر والحدود، وأيضا اضطرارها لشراء السلع الأساسية ذات الوزن المالي الكبير مثل الكهرباء والمحروقات من إسرائيل، والتحوّل نحو الاستيراد على حساب الإنتاج المحلي، بسبب رغبة الحكومات المتعاقبة في الحصول على إيرادات المقاصة الشهرية "السهلة" بدلاً من توسيع القاعدة الإنتاجية المحلية، وتقاطعت مع رغبة القطاع الخاص أيضاً في السباحة في المياه الدافئة من خلال الاستيراد بدلاً من الاستثمار بالقطاعات الصناعية أو الزراعية المحلية، ومع توجهات المستهلك الفلسطيني أيضاً نحو السلع المستوردة، وموسمية حملات المقاطعة.
وبالتالي، وفي ظل احتجاز إسرائيل لكافة إيرادات المقاصّة، لم يتبقَ للسلطة الفلسطينية سوى الإيرادات المحلية والمنح والمساعدات الخارجية كموارد للخزينة العامة، حيث تراجعت الإيرادات المحلية بسبب انكماش دورة الاقتصاد ككل، وتبلغ حالياً بالمعدل حوالي (250) مليون شيكل شهريا، أمّا الدعم الخارجي فهو في أسوأ أحواله، حيث تراجع الدعم العربي إلى حدود دنيا، ولم تستقبل الخزينة العامة في العام 2025، سوى (30) مليون دولار من المملكة العربية السعودية، في حين تقلصت حزمة الدعم الأوروبية الى (1.6) مليار يورو للسنوات الثلاث 2025-2027، وهي مقسمة إلى 3 مسارات، حصة الخزينة العامة منها فقط (620) مليون يورو على مدار السنوات الثلاث، عدا عن دعم مبرمج من البنك الدولي، وبالمحصلة فان الإيرادات المتاحة دون المقاصّة لا تكفي بأي حال من الأحوال للنفقات الأساسية ونسبة الـ 70% من الراتب.
وعملياً استنفذت الحكومة الإجراءات الفنية لتوليد الإيرادات، فتم عملياً ضبط صافي الإقراض من خلال جهود وحدة صافي الإقراض في وزارة المالية بالتعاون مع الجهات ذات الصلة، وتم اجراء تسويات مع شركات توزيع الكهرباء الخمسة، ومع حوالي (95) هيئة محلية، وبلغت قيمة هذه التسوياتٍ المالية حوالي 600 مليون شيكل لصالح الخزينة العامة، وتم جدولة دفعها، عدا عن الحد من النزيف القائم في ملف صافي الإقراض، كذلك بلغت الحكومة الحد الأعلى من الاقتراض البنكي، بسبب تراكم الديون والاقتراض، وخاصّة القرض المجمع في نهاية العام 2023، واستحقاق زمن السداد، إضافة الى تكاليف شهرية تتعلق بدعم الوقود، والنفقات التشغيلية الأساسية مثل موردي الأدوية والتحويلات الطبية وغيرها، وعملياً بلغ الديّن العام والالتزامات الحكومية حوالي 13 مليار دولار.
وبالتالي لا توجد حلول فنية بديلة للاستعاضة عن احتجاز إيرادات المقاصّة، وأضحت هناك ضرورة ملحّة أن يتم تجنيد كافة أركان السلطة الوطنية الفلسطينية، الرئاسة، الحكومة، السفارات، القطاع الخاص، مؤسسات المجتمع المدني، الفصائل الوطنية، لإطلاق حملة دولية بمسارات سياسية وقانونية ودبلوماسية تجاه تحصيل إيرادات المقاصّة، ووفي ذات الوقت اطلاق حملة لتفعيل شبكة الأمان العربية، لتعويض الخزينة العامة عن إيرادات المقاصة المحتجزة، والمبالغ المطلوبة ليست بالكبيرة، ولن تثقل كاهل الدول العربية، وخاصة النفطية منها، إضافة الى حث دول العالم لتقديم دعم طارئ للسلطة الفلسطينية، خاصة الاتحاد الأوروبي، والدول التي تبدى استعدادا للاعتراف بالدولة الفلسطينية، والتوجه لدول صديقة لتجنيد الدعم الطارئ، او قروض طويلة الأجل، فالأزمة الماليّة جدّ عميقة، وتهدد الكينونة الفلسطينية، وتنذر بانهيار بنيوي، مالم يتم تداركها.
أما على الصعيد الداخلي، فتوجد ضرورة لإقرار موازنة طوارئ واقعية، تُبنى على الأولويات الوطنية، بما يضمن استمرار الخدمات الأساسية، وخاصة التعليم والصحة والحماية الاجتماعية، واتخاذ قرارات جوهرية بترشيد النفقات، مثل وقف النفقات التشغيلية غير الأساسية بشكل كامل، وتجميد العمل بالنفقات الرأسمالية والتطويرية من خلال الخزينة العامة، وتحديد سقف للرواتب الحكومية، وتعزيز الثقة ما بين الحكومة والمواطن، ومواصلة مسيرة الإصلاح الإداري والمالي، النابعة من متطلبات وطنية، ومعالجة الاختلالات التراكمية في هيكل الإيرادات والنفقات.