الجمعة  08 آب 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

علاقات إسرائيل بالنظام السوري الجديد: أبعاد وتحولات

2025-08-08 08:17:11 AM
علاقات إسرائيل بالنظام السوري الجديد: أبعاد وتحولات
الشرع

 الحدث - محمد بدر

منذ انهيار حكم بشار الأسد وصعود النظام السوري الجديد برئاسة أحمد الشرع، وجدت إسرائيل نفسها أمام واقع إقليمي متغير فرض عليها إعادة صياغة مقاربتها تجاه دمشق. فالنظام الجديد، الذي جاء بعد سنوات من الحرب والانهيار المؤسساتي، يواجه تحديات داخلية عميقة تتعلق بإعادة بناء الدولة وفرض سلطته على كامل الأراضي السورية، وفي الوقت نفسه يحتاج إلى إعادة صياغة علاقاته الخارجية بما يضمن له شرعية دولية واستقرارًا داخليًا.

بعد سقوط نظام الأسد، سعت إسرائيل إلى استغلال حالة الضعف التي أصابت الجيش السوري لضمان عدم عودته كقوة تهدد حدودها الشمالية. وقد شنت إسرائيل سلسلة من الهجمات الجوية الدقيقة التي استهدفت مستودعات الأسلحة الثقيلة ومراكز القيادة في دمشق ومحيطها، إضافة إلى ضرب مواقع عسكرية في الجنوب السوري. الهدف المعلن لتل أبيب كان منع إعادة تسليح الجيش السوري بما يتجاوز قدراته الدفاعية، وضمان عدم انتقال الأسلحة النوعية إلى المجموعات الحليفة لإيران خاصة في لبنان.

هذه العمليات العسكرية، التي اتسمت بطابع "الضربات الجراحية"، حملت رسائل مزدوجة: أولًا للنظام الجديد بأن إسرائيل لن تتسامح مع أي تهديد مباشر، وثانيًا للقوى الإقليمية بأن أي محاولة لإعادة بناء تحالفات عسكرية معادية لتل أبيب ستواجه بالقوة. هذا النهج أضعف القدرات الهجومية للجيش السوري في فترة حرجة، وأبقى إسرائيل اللاعب الأكثر تأثيرًا في تحديد ميزان القوى على الحدود.

ومع تفكك سيطرة الدولة السورية على مناطقها الحدودية الجنوبية، بادرت إسرائيل إلى فرض أمر واقع جديد عبر احتلال أراضٍ في الجنوب السوري بعمق محدود، وإنشاء منطقة عازلة بحجة حماية حدودها من التهديدات الأمنية. هذه الخطوة لم تكن مجرد عملية دفاعية، بل جاءت كجزء من استراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد تهدف إلى منع اقتراب أي قوى معادية من حدود الجولان المحتل، وتأمين نفوذ مباشر داخل الأراضي السورية.

سياسة النظام السوري الجديد تجاه إسرائيل

تبنى النظام السوري الجديد منذ لحظة استلامه للسلطة نظرية مفادها أن أي استقرار داخلي لن يتحقق دون تهدئة جبهة الجنوب مع إسرائيل. لذلك، اتبع نهجًا يقوم على طمأنة تل أبيب من خلال سلسلة من الإجراءات الرمزية والعملية، مثل الحد من التواجد العسكري في المناطق القريبة من خط وقف إطلاق النار في الجولان، وإيقاف أي نشاط عسكري قد يُفسر كتهديد مباشر لإسرائيل.

كما عمل النظام الجديد على إرسال رسائل غير مباشرة عبر قنوات دبلوماسية غربية بأنه لا يسعى إلى إعادة إنتاج خطاب العداء الذي كان يميز عهد الأسد، بل يرغب في التعايش مع إسرائيل ضمن واقع جديد تفرضه الظروف. هذه السياسة توقع الشرع أن تمنح دمشق فسحة من الوقت لترتيب وضعها الداخلي، وفتح الباب أمام استعادة الشرعية الدولية عبر تقديم نفسها كشريك يمكن احتواؤه بدلاً من كونه تهديدًا إقليميًا.

وفي إطار جهوده لإعادة صياغة سياسته الإقليمية، تبنى النظام السوري الجديد مواقف أكثر تشددًا ضد الفصائل الفلسطينية العاملة على أراضيه، خاصة تلك التي تتبنى خطًا مقاومًا لإسرائيل. وقد أقدم على تفكيك بعض البنى التحتية لهذه الفصائل، وأوقف عمليات نقل الأسلحة التي كانت تتم عبر الأراضي السورية إلى حزب الله في لبنان. هذه الإجراءات، التي جاءت استجابة لضغوط إسرائيلية وغربية، عكست تحولًا جذريًا في موقف دمشق التاريخي.

 النظام الجديد أراد أن يظهر كشريك يمكن التعويل عليه في مواجهة تهديدات التسلح غير النظامي، وهو ما ساعده على كسب دعم قوى دولية مؤثرة. من منظور إسرائيل، مثل هذا التحول خطوة إيجابية تسهم في تحجيم الخطر القادم من الشمال، كما أنه أعطى تل أبيب مؤشرات بأن دمشق الجديدة مستعدة للتخلي عن سياسات الماضي مقابل بقائها واستقرارها.

لقاءات بين النظام الجديد ومسؤولين إسرائيليين

مع تزايد التقاطعات بين مصالح إسرائيل والنظام السوري الجديد، بدأت تظهر تقارير عن لقاءات سرية بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين برعاية أطراف دولية وإقليمية. هذه اللقاءات، التي غالبًا ما جرت في عواصم أوروبية، ركزت على ملفات أمنية حساسة تتعلق بضبط الحدود الجنوبية، وآليات منع تهريب الأسلحة إلى حزب الله، وإمكانية فتح قنوات اتصال مباشرة بين دمشق وتل أبيب.

بالنسبة للنظام السوري الجديد، مثلت هذه اللقاءات فرصة للحصول على ضمانات أمنية من إسرائيل وتخفيف الضغوط العسكرية على جبهته الجنوبية. أما تل أبيب، فقد رأت فيها مدخلًا لتثبيت ترتيبات طويلة الأمد تمنع عودة التوتر العسكري وتضمن استمرار تفوقها الاستراتيجي. ورغم التكتم الرسمي من الجانبين، إلا أن تسريب بعض تفاصيل هذه اللقاءات كان رسالة إلى المجتمع الدولي بأن النظام الجديد مستعد للانخراط في مقاربات سياسية غير تقليدية لضمان بقائه.

أدى الانفتاح الغربي، خصوصًا من جانب الولايات المتحدة، على النظام السوري الجديد إلى إحداث تحولات ملموسة في علاقة دمشق بتل أبيب. فقد أدركت إسرائيل أن هذا الانفتاح يتيح لها فرصة لتأمين ترتيبات أمنية طويلة الأمد عبر قنوات دبلوماسية دولية، بدلًا من الاكتفاء بالعمل العسكري المباشر. من جانب آخر، استفاد النظام السوري من هذا التقارب مع الغرب لإظهار نفسه كحليف يمكن الوثوق به في تحقيق الاستقرار الإقليمي، ما انعكس في تقارب أكبر مع إسرائيل على المستوى الأمني. كما سمح الدعم الغربي بتخفيف عزلة دمشق وخلق بيئة سياسية جديدة يكون فيها التعامل مع إسرائيل جزءًا من مقاربة شاملة لإعادة دمج سوريا في النظام الإقليمي والدولي. هذه التحولات جعلت العلاقة بين دمشق وتل أبيب أكثر براغماتية، قائمة على مقايضات واضحة بين الأمن والمصالح السياسية.

التدخل الإسرائيلي لصالح الدروز في السويداء

اندلعت أزمة السويداء في منتصف يوليو/تموز 2025 بعد مقتل عدد من أبناء الطائفة الدرزية في اشتباكات مع مجموعات بدوية موالية للنظام السوري، تطورت سريعًا إلى مواجهات مسلحة واسعة شملت استخدام الأسلحة الثقيلة وحتى القذائف، وأسفرت خلال أيامها الأولى عن مئات القتلى والجرحى ونزوح عشرات الآلاف من المدنيين.

في خضم هذه الأزمة، دخلت إسرائيل على خط الأحداث بشكل مباشر، بحجة "حماية الدروز" من عمليات انتقامية أو قمع واسع النطاق من جانب قوات النظام أو حلفائه. وقد اتخذ هذا التدخل أشكالاً متعددة: بدءًا من التصريحات السياسية التي حملت رسائل تحذير لدمشق، مرورًا بتكثيف الاتصالات مع زعامات درزية في الجولان المحتل ولبنان، وصولًا إلى التحركات العسكرية على الأرض.

نفذت إسرائيل ضربات جوية مركزة استهدفت قوافل عسكرية تابعة للفرقة 15 السورية في ريف السويداء، بالإضافة إلى مواقع أمنية في مدينة شهبا ومحيط السويداء. الهدف المعلن من هذه العمليات، كما ورد في بيانات إسرائيلية، هو "منع تكرار مجازر ضد الدروز"، لكن القراءة الاستراتيجية تكشف أبعادًا أعمق؛ فتل أبيب تسعى إلى خلق منطقة نفوذ ممتدة من الجولان حتى العمق السوري، بما يحول دون تموضع أي قوات سورية في هذه المنطقة الحساسة. هذا التدخل رسخ من مكانة إسرائيل كفاعل رئيسي في الجنوب السوري، وأعاد ترتيب قواعد الاشتباك هناك بما يخدم مصالحها الاستراتيجية على المدى الطويل.

في 16 يوليو/تموز 2025، نفذت إسرائيل واحدة من أعنف ضرباتها على العاصمة دمشق منذ سنوات. استهدفت الغارات، وفق مصادر ميدانية وتقارير إعلامية غربية، مقر هيئة الأركان العامة السورية في حي الأمويين، إضافة إلى مواقع قريبة من القصر الرئاسي. ترافق هذا التصعيد العسكري مع عودة خطاب إسرائيلي يشيطن النظام السوري، حيث صدرت تصريحات عن مسؤولين إسرائيليين اتهموا دمشق بممارسة "تطهير طائفي" بحق الدروز، واعتبروا النظام الجديد امتدادًا للنهج القمعي الذي ميز عهد الأسد.

الإعلام الإسرائيلي بدوره لعب دورًا في تغذية هذا الخطاب، مقدمًا التدخل العسكري كخطوة إنسانية لحماية الدروز، في حين أنه في جوهره يندرج ضمن استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة رسم الخريطة الأمنية للجنوب السوري وضمان بقاء دمشق تحت الضغط الدائم. هذا المزج بين البعد الإنساني والسياسي أتاح لإسرائيل تبرير ضرباتها أمام المجتمع الدولي، وفي الوقت نفسه تحقيق مكاسب استراتيجية تمثلت في تحجيم قدرة النظام على السيطرة على العاصمة ومحيطها دون حسابات إسرائيلية.

عرقلة التدخل الإسرائيلي للاتفاق الأمني بين النظام وإسرائيل

قبل الضربات الأخيرة، كانت هناك محادثات غير معلنة بوساطة أمريكية وأوروبية تهدف إلى إرساء تفاهمات أمنية بين النظام السوري الجديد وإسرائيل حول جنوب سوريا كخطوة أولى على طريق بناء الثقة وصولا للتطبيع الشامل. إلا أن التدخل الإسرائيلي العسكري والسياسي عرقل هذه المساعي. العرقلة الإسرائيلية أظهرت أن تل أبيب لا تنظر إلى الاتفاقات الأمنية باعتبارها آليات تهدئة فقط، بل كأدوات لإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية السورية بما يخدم مصالحها.

بالنسبة للنظام السوري، أدى هذا التدخل إلى تعقيد الموقف السياسي، إذ وجد نفسه أمام ضغوط مزدوجة؛ مطالب إسرائيلية تتجاوز الملف الدرزي إلى القضايا السيادية الكبرى، وضغوط أمريكية وأوروبية تدعو إلى تقديم تنازلات مقابل تثبيت الحكم واستعادة الشرعية الدولية. النتيجة كانت فشل المسار التفاوضي، واستمرار حالة اللااستقرار في الجنوب السوري، ما أبقى الأزمة مفتوحة على احتمالات التصعيد بدلًا من التهدئة.

كشفت أزمة السويداء في يوليو 2025 أن الجنوب السوري بات ساحة تنافس إقليمي ودولي مفتوحة، حيث تحولت إسرائيل من مجرد مراقب للحدود إلى لاعب فاعل يرسم قواعد الاشتباك ويفرض ترتيبات أمنية على الأرض. النظام السوري الجديد، في المقابل، بدا عاجزًا عن فرض سلطته دون الدخول في مساومات مع القوى الخارجية، ما يعكس هشاشته البنيوية وتراجع قدرته على إدارة الأزمات الداخلية بمعزل عن التدخلات الأجنبية.