السبت  23 آب 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"محور المقاومة" يخسر المعركة الإعلامية والأيديولوجية| بقلم: ناجح شاهين

2025-08-23 12:47:09 PM
ناجح شاهين

بعض من أقاربي وأصدقائي المقربين "هجموا" أثناء هليلة صيدنايا مع غيرهم من المجاهدين على صحفات التواصل ضد نظام الأسد عديم القلب والمشاعر والأحاسيس. وكانوا قبل ذلك قد شاركوا في معركة كورونا الكبرى بكل ما أتوا من قوة ومن رباط الخيل. اليوم تقوم الدولة اللبنانية بتسليم أسير اسرائيلي لديها دون مقابل مع أن اسرائيل تحتفظ بأسرى لبنانيين. يمر الخبرمرورالكرام. تعلن لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة أن قوات أمن الدولة السورية في زمن الجولاني السعيد قد كررت مجازر الساحل ضد العلويين بحذافيرها. هذه المرة في السويداء ضد الدروز. تشمل الجرائم المشار إليها القتل من مسافة صفر بالأسلحة النارية والبيضاء على السواء، وتشمل اغتصاب النساء واختطافهن، وتشمل إذلال الرجال بطرق عديدة. لم يبد على الناس أي إحساس بالصدمة. أخيراً تعلن الأمم ذاتها أن غزة تعيش فعلاً حالة مجاعة ناجمة عن استخدام الجيش الإسرائيلي تجويع المدنيين سلاحاً في المعركة. من جهتى لا يحضرني الآن أية حالة لاستخدام التجويع جزءاً من أسلحة الإرهاب بحق المدنيين. قد تكون إسرائيل صاحبة حق الاختراع والامتياز في هذا الشكل المريع من الإرهاب. كذلك يمكن ملاحظة تثاؤب الجماهير من المحيط إلى الخليج تجاه هذه الواقعة الإرهابية المذهلة.

أين ذهب ذلك الذهول والوجوم الذي رافق ردود الفعل الهائجة ضد الأسد حتى بعد غيابه وانتهاء دولته؟ حتى أن الناس لم يكونوا جاهزين للتوقف ثانية واحدة ليستمعوا إليك وأنت تحاول عبثاً أن تخبرهم بأن الصور تشي بتدخل الوافد الجديد إلى مشهد صناعة الإعلام: الحاج "تشات جي بي تي" الذي سيقوم بالكتابة بالنيابة عنا جميعاً عما قريب!

في زمن سعيد مضى وانقضى منذ ثلاثة عقود كان الناس يمارسون مقداراً من القراءة، في الحد الأدنى كان أحدنا يقرأ المنشور الصادر عن هذا الحزب أو ذاك، وكانت الدولة تتمتع باحتكار الإذاعة والتلفاز، بينما كانت المقاومة تعتمد المطبوعات البسيطة بأدوات بدائية يدوية أو شبه يدوية. على الرغم من ذلك كان "الوعي" الثوري يتغلب معظم الأحيان على جهاز الدولة الإعلامي، ولذلك كانت الدولة تستخدم جهازها القمعي الإكراهي على نطاق واسع جداً، لأنه الطريقة الوحيدة المتاحة لديها لكي تجبر الناس على الانصياع للنظام القائم بخيره وشره.

تغيرت الصورة تغيراً عميقاً منذ دخولنا زمن الفضائيات، ولا بد أن زمن وسائط التواصل الاجتماعي قد قضى قضاء مبرماً على الجهود البسيطة والمتواضعة لأنصار المقاومة والتغيير الاجتماعي على وجه العموم.

في الساحة العربية دخلت الجزيرة بقوة رهيبة تبشر بمشروع "الثورة" ضد كل شيء. وخلال أشهر قليلة اختطفت قلوب الناس وزغللت أبصارهم من المحيط إلى الخليج عن طريق بريق "ثوري" أصفر يلمع كثيراً دون أن يكون له صلة بالذهب. قدمت الجزيرة بعض الألعاب البهلوانية بذكاء لا يمكن أن يكون مستقلاً عن نصائح مراكز البحث في بوسطن ونيويوك ونيوجيرسي وفيلادلفيا ولندن وباريس إن لم يكن تل أبيب وحيفا. وعلى نحو أعجز عقول البسطاء، قامت برامج من قبيل "الاتجاه المعاكس" بالهجوم على شخصيات مثل الملك حسين، والرئيسين السادات ومبارك كاشفة على الملأ "الأسرار" الخيانية التي تحفل بها الدول العربية المختلفة.  وباستخدام لغة نارية في دعم كل ما يتصل بالعداء لأمريكا واسرائيل والأنظمة العربية احتلت القناة الوليدة عقول الناس على نطاق واسع، وتدريجياً تولت مهمتين خطيرتين قبل ولادة الذكاء الصناعي بربع قرن: تولت الجزيرة مهمة تزويد الناس بالحقائق/المعلومات بأدق تفاصيلها، وما عليك إلا أن تكبس جهاز التحكم لتأتيك المعلومات طائعة مسرعة كما لو كنت سيدنا سليمان بالذات؛ من ناحية أخرى قامت القناة الوليدة بتوضيح وشرح المعطيات والوقائع والأخبار بالاستعانة بالعلماء والمحللين والخبراء من كل حدب وصوب. ولكي يكون المشاهد مطمئناً إلى النزاهة والحيادية ووجود "الرأي والرأي الآخر" التزمت الجزيرة دائماً بالحرص على حضور من يمثل الرأي ومن يمثل نقيضه، أو على الأقل، ذلك ما تخيله الجمهور على نطاق واسع.

أخبرني رجل ذكي درس الفيزياء في الجامعة الأردنية في سبعينيات القرن العشرين أنه لا يصدق أي خبر إلا بعد أن يسمعه من الجزيرة. وهناك بالطبع ملايين الناس من المحيط إلى الخليج لا يرون الحدث إلا بعد أن تعرضه الجزيرة، إنها قناة المعلومة والخبر الموثوق لا مدافع.

هل مر حافظ الأسد بجوار عيزر فايتسمان في سياق تشييع الملك حسين؟ أفردت الجزيرة ساعات وساعات لمراقبة وجه الرئيس السوري وقسماته ورمشات عينيه بحثاً عما يثبت ضلوعه في مشروع للتطبيع مع اسرائيل، وعندما مات الرجل لم تتوقف القناة عن البحث عن الأدلة الخفية التي تثبت تورط الأسد سرياً في أنشطة خيانية تتضمن الاعتراف بإسرائيل وبيع الجولان ناهيك عن جرائم الأسد المعروفة ضد شعبه في الثمانيينات وغيرها ودكتاتوريته وطائفيته: إن حافظ الأسد تجسيد للشيطان الطاغية العميل لإسرائيل وأمريكا بدون أدنى شك. ولولا دعم الولايات المتحدة واسرائيل له لما صمد في الحكم يوماً واحداً.

تقريباً ابتلع الجمهور على مهل وباستعمال منهجية التكرار "بعلم" الشطار مثلما يعلم الحمار معلومات الجزيرة وتحليلاتها في المواضيع المختلفة وأسلم الفرد قياده مرتاحاً للجزيرة التي يمكن كما في حالة ياسر عرفات فلسطينياً: يمكن أن تختلف معها ولكنك لا تختلف عليها. ولذلك يضطر المرء أن يذهب في أي حوار سياسي إلى مربع الجزيرة بالذات لأن الجمهور يأتي بمعلوماته وتحليلاته من ذلك الينبوع الصافي المدجج بالعلماء بقيادة عزمي بشارة ويوسف القرضاوي.

بضربة عملاقة لا قبل لأحد بها احتكرت الجزيرة ثم الفيس بوك العظيم بضاعتين تتمتعان بالقداسة المطلقة: الإسلام والديمقراطية. إن عارضت الإسلام فأنت كافر، وإن عارضت الديمقراطية فأنت مع الاستبداد والدكتاتورية والسجون والتعذيب. وكان على الفكر المعارض مثلما القوى السياسية المعارضة للمشروع المشار إليه أن تجترح المعجزات للدفاع عن معلوماتها ووقائعها وحقائقها وتحليلاتها، وهي تفتقر إلى المال والعتاد والذخيرة والرجال بينما يتمتع الخصم بفائض قوة لا نظير له في التاريخ.

تمت السيطرة على العقول، وأنجزت عملية "إلجام العوام عن علم الكلام" إلا في حدود استعادة مقولات الجزيرة الإسلامو/ليبرالية مصداقاً للخليط الذي يمثله بشارة والقرضاوي برعاية باراك أوباما شخصياً. لذلك فشلت المحاولات المحدودة البائسة لأنصار "الاتجاه المعاكس" بتعبير الجزيرة في اكتساب جزء مهم من الجمهور الذي لا يحتمل التحليلات الثقيلة المستندة إلى نظريات الاقتصاد السياسي المعقدة من قبيل نظرية ماركس، أو تلاميذه الأشد تعقيداً منه مثل كتاب مدرسة النظام العالمي ومدارس التبعية المختلفة.  يمكن من ناحية أخرى أن نعترف أن المشروع المعاكس لمشروع الربيع العربي لم يكن متجانساً أو مسلحاً برؤية فكرية واضحة. وإذا كنا نسخر من توليفة الإسلام الأصولي والديمقراطية الليبرالية المقدمة من مركز الدوحة لصناعة الآيديولوجيا المتناقضة، فإن علينا أن نعترف أن "محور المقاومة" كان خليطاً أشد تضارباً وتناقضاً بتوليفة ولاية الفقيه، والبعث القومي السوري، واليسار العادي، ويسار مدرسة النظام العالمي. ولا بد أن توليقة الديمقراطية والإسلام الأصولي كانت دائماً أشد جاذبية للجماهير في حين أن الفكر الشيعي مثلما اليساري لا يحظيان بأية شعبية لدى بسطاء السنة، وينطبق ذلك وإن بدرجة أقل على الفكر القومي البعثي وغيره.

لقد كانت معركة خاسرة بامتياز سمحت بهيمنة اديولوجيا أوباما ومشروعه في المنطقة مستخدمة عربة الجماهير المعبأة بالأوهام من المحيط إلى الخليج، وإذا كان هناك من تعثر لذلك المشروع، فإن سبب ذلك هو ظهور طبعة ترامب من السياسة الأمريكية التي لا تكترث كثيراً "للدهاء" السياسي لمدرسة أوباما وتنحو إلى إخضاع العرب وغيرهم إن أمكن باستخدام القوة العارية من أية مظاهر لحفظ ماء الحياء. اليوم يمكن للنظام السوري الجديد أن يرفع علم اسرائيل في دمشق في وضح النهار دون أن يكون خائناً، ويستطيع أن يقتل الأطفال ويغتصب الناس دون أن يصاب أحد بالصدمة، ذلك أن الحدث/الواقعة لا تكتسي اللحم وتسري في عروقها الدماء إلا إذا روجتها وسائل الإعلام الجمعي والاجتماعي المنتصرة في معركة السيطرة على العقول.