الحدث الفلسطيني
تشير أحدث معطيات صادرة عن مركز “أمان” إلى أنّ فلسطينيي الداخل المحتل يواجهون واحدة من أخطر الموجات الإجرامية منذ عقود، حيث بلغ عدد ضحايا العنف والجريمة حتى نهاية آب/أغسطس ٢٠٢٥ نحو ١٧٥ ضحية، وهو رقم قياسي يفوق ما سُجّل في العام الماضي (١٦٧ ضحية) وما قبله (١٧٠ ضحية). هذا الارتفاع يعكس مسارًا تصاعديًا مقلقًا ويؤكد أنّ الجريمة لم تعد أحداثًا فردية أو عابرة، بل تحولت إلى ظاهرة بنيوية مترسخة تغذيها سياسات التمييز والإهمال المنهجي من مؤسسات الاحتلال .
وتُظهر بيانات المركز أنّ الشمال والمركز بقيا البؤرتين الأكثر خطورة، إذ سُجّل في الشمال ٨٨ ضحية، وفي المركز ٥٧، مقابل ٢٠ في النقب و٨ في القدس واثنين فقط في الضفة. وعلى مستوى البلدات، تصدرت الناصرة القائمة بـ١١ ضحية، تلتها اللد بـ٩، ثم الطيرة بـ٨، والرملة بـ٧، ورهط بـ٦، وأم الفحم بـ٥. هذه الأرقام تكشف عن “جيوب ساخنة” تتقاطع فيها شبكات الجريمة مع غياب الحماية الأمنية، وضعف الاستجابة الشرطية، وانهيار البنى الاقتصادية والخدماتية في بلدات فلسطينيي الداخل .
ويتضح أنّ الفئة الأكثر استهدافًا هي الشباب بين ٢٥ و٣٩ عامًا (٩٥ ضحية)، يليها الشباب بين ١٨ و٢٤ عامًا (٢٨ ضحية)، فيما سُجّل سقوط ٨ أطفال دون ١٧ عامًا. أما الضحايا فوق الأربعين فقد بلغوا (٤٤). كما أن الرجال يمثلون الغالبية الساحقة (١٥٨ من أصل ١٧٥)، غير أنّ التقرير يشير إلى تنامٍ مقلق في عدد النساء الضحايا، سواء في إطار العنف الأسري أو نتيجة تورط شبكات الجريمة المنظمة .
السلاح الناري ظل الوسيلة الأكثر استخدامًا، حيث استُخدم في ٨٥٪ من الجرائم. ويشير التقرير إلى أنّ غياب الجدية من مؤسسات الاحتلال، وعلى رأسها الشرطة، في مصادرة السلاح ووقف تهريبه، جعل من السلاح أداة متاحة لتصفية النزاعات. فبرغم مئات آلاف قطع السلاح المنتشرة، تتقاعس شرطة الاحتلال في جمعها، في حين تُوجّه جهدها إلى ملاحقة الفلسطينيين سياسيًا وقمع حراكهم، بدل حماية حياتهم. هذا التراخي المتعمد ساهم في ترسيخ حالة من الإفلات من العقاب، إذ يبقى معظم ملفات القتل دون حل أو تقديم الجناة للعدالة .
ويرى التقرير أنّ الجريمة لم تعد قضية جنائية فحسب، بل تحولت إلى اقتصاد موازٍ داخل بلدات فلسطينيي الداخل، تديره شبكات منظمة عبر القروض غير القانونية، الابتزاز، السيطرة على مناقصات البناء، وتجارة السلاح. هذا الواقع، الذي يتفاقم تحت أعين سلطات الاحتلال، خلق ما يمكن تسميته “ضريبة الجريمة” التي يدفعها المواطنون مباشرة عبر الابتزاز أو غير مباشرة عبر ارتفاع الأسعار وتراجع الاستثمارات. التواطؤ أو غضّ الطرف من مؤسسات الاحتلال، خصوصًا الشرطية منها، سمح لهذه الشبكات بالتمدد والانتشار دون رادع .
الجريمة المستفحلة انعكست على المدارس، إذ يفتتح العام الدراسي ٢٠٢٥/٢٠٢٦ في أجواء غير آمنة، ما يضعف التحصيل، ويزيد التسرب، ويعزز شعور الطلاب بالتهديد اليومي. ويؤكد التقرير أنّ غياب سياسات وقائية من قبل المؤسسات التربوية التابعة للاحتلال يجعل المدارس بيئات هشّة، فيما يترك آلاف الشباب خارج أطر التعليم والعمل عرضة مباشرة للاستقطاب من شبكات الجريمة .
وقدّم التقرير توصيات تشمل إعلان “سنة طوارئ تعليمية”، وتعزيز الدعم النفسي والاجتماعي للطلاب، وإنشاء مراكز تدريب مهني مرتبطة بسوق العمل. كما دعا إلى حملات حقيقية لمصادرة السلاح غير المرخص، وتشكيل وحدات شرطية مختصة بملاحقة مصادر تمويل العصابات، مع تشديد العقوبات على تجارة السلاح والابتزاز. لكنه شدد في الوقت نفسه على أنّ أي خطة لا يمكن أن تنجح دون تغيير جذري في سياسات مؤسسات الاحتلال، بحيث تتحمل مسؤوليتها في حماية الفلسطينيين بدل تركهم فريسة للفوضى .
وخلص التقرير إلى أنّ العنف والجريمة في بلدات فلسطينيي الداخل المحتل ليست مجرد ظاهرة اجتماعية، بل نتيجة مباشرة لسياسات الإهمال والتواطؤ من قبل مؤسسات الاحتلال، وعلى رأسها الشرطة. هذه المؤسسات تركت السلاح يتدفق، والجريمة المنظمة تتمدد، فيما واصلت قمع الناشطين السياسيين وتجاهلت أمن الناس. الحل، كما يشدد “أمان”، يتطلب مقاربة شاملة تمزج بين الردع الصارم، والإصلاح التربوي والاقتصادي، وتفعيل الدور المجتمعي، مع تحميل سلطات الاحتلال المسؤولية الكاملة عن نزيف الدم المتواصل.