الحدث الإسرائيلي
في مطلع الأسبوع الجاري وخلال جلسة مطوّلة عقدها الكابينيت السياسي–الأمني للاحتلال، استمرت ساعات طويلة، وجّه رئيس الأركان أيال زامير تحذيرًا شديدًا من تبعات خطة احتلال مدينة غزة، قائلاً للوزراء: أنتم ذاهبون نحو حكم عسكري، وخطتكم تقودنا مباشرة إلى هناك، وعليكم أن تدركوا ما تعنيه هذه الخطوة. كان هذا التصريح بمثابة جرس إنذار، لكن الردود التي صدرت عن الوزراء كشفت حجم الهوّة بين المؤسسة الأمنية التي تعي الواقع الميداني وتعقيداته، وبين المستوى السياسي الذي يتعامل مع القرار وكأنه تفصيل إداري يمكن تمريره دون حساب. سكرتير الحكومة حاول التقليل من أهمية التحذير، فيما اقترح وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بديلًا عبثيًا هو “تشجيع الهجرة الطوعية”. وعندما أعاد زامير تأكيد موقفه، ردّ وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بسخرية قائلاً: لقد اتخذنا القرار، بينما علق بن غفير باستخفاف آخر. هكذا بدا المشهد وكأن المؤسسة العسكرية تصرخ في وادٍ، بينما الحكومة ماضية في قرارها غير آبهة بما قد يقود إليه.
التحذير الذي أطلقه زامير لم يكن كلامًا نظريًا، بل توصيفًا لواقع إذا ما تحقق، فإنه يعني عودة الاحتلال المباشر إلى غزة بكل ما يحمله من تبعات عسكرية وقانونية وسياسية. فالحكم العسكري ليس إعلان انتصار، بل بداية مستنقع جديد. إدارة قطاع يضم أكثر من مليوني إنسان يعيشون وسط دمار واسع، وتحتضن مقاومة راسخة وأنفاقًا ممتدة، ستضع الجيش في مواجهة استنزاف لا نهاية له. لن يكون الجنود قوة ردع بقدر ما سيغدون شرطة قمعية تدير تفاصيل الحياة اليومية بالقوة: حواجز، اعتقالات، مداهمات، ومهام مدنية قسرية. ومع مرور الوقت ستتآكل معنوياتهم وتتصاعد خسائرهم، كما حدث في التجربة اللبنانية بين 1982 و2000، حين تحولت السيطرة إلى عبء دموي انتهى بانسحاب مذل. لكن غزة أكثر كثافة سكانية، وأضيق مساحة، وأكثر دمارًا، ما يجعل كل يوم إضافي من الاحتلال المباشر أكثر كلفة.
في هذه البيئة، لن تتلاشى المقاومة، بل ستزداد تنظيمًا وقدرة على الحركة. ستتحرك في أحياء تعرفها جيدًا، وتحول كل نقطة تماس إلى فرصة مواجهة. حاجز عسكري قد يصبح ساحة اشتباك، ودورية يمكن أن تقع في كمين، وموكب مساعدات قد يتحول إلى مشهد يُظهر عجز الاحتلال. في المقابل، سيكون الجنود غرباء منهكين، عالقين في دائرة احتكاك مستمرة بلا أفق للانتصار.
التبعات لا تقف عند حدود الميدان. فمن الناحية القانونية، سيعيد الحكم العسكري تعريف “إسرائيل” كقوة محتلة وفق القانون الدولي، بما يفرض عليها التزامات كاملة تجاه السكان المدنيين بموجب اتفاقيات جنيف ولاهاي. وهذا يشمل ضمان الغذاء والماء والكهرباء والرعاية الصحية والتعليم. أي إخفاق – وهو شبه مؤكد في ظل دمار البنية التحتية – سيتحوّل إلى خرق مباشر للقانون الدولي. انقطاع الكهرباء أو نقص المياه أو انهيار المستشفيات، كلها ستُسجَّل كمسؤولية قانونية على الاحتلال. أما الإجراءات القمعية، من اعتقال إداري أو تقييد للحركة أو حتى محاولة فرض الهجرة الطوعية، فستُعتبر جرائم حرب قابلة للملاحقة أمام محكمة الجنايات الدولية. وهنا لا يعود الخطر مقتصرًا على المؤسسة الإسرائيلية، بل يتوسع ليشمل الوزراء والقادة ورئيس الحكومة شخصيًا، في دائرة مسؤولية فردية قد تلاحقهم لسنوات طويلة.
سياسيًا، ستفقد “إسرائيل” الغطاء الذي طالما استفادت منه أمام الغرب منذ 2005، وهو سردية انسحابها من غزة وعدم مسؤوليتها المباشرة عن القطاع. هذا الغطاء كان يبرر الحصار والعدوان باعتبارهما عمليات ضد كيان خارجي منفصل. لكن مع العودة إلى حكم عسكري مباشر، ستظهر “إسرائيل” كدولة استعمارية تتحكم في حياة شعب بأكمله بالقوة، ما سيضعف الدعم الغربي ويعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة كقضية تحرر وطني ضد استعمار مباشر.
أما داخليًا، فالارتدادات لن تقل خطورة. فالمجتمع الإسرائيلي يعيش أصلًا حالة انقسام داخلي عميق. ومع كل جندي يسقط وكل تابوت جديد يعود من غزة، ستتسع التساؤلات داخل الشارع: لماذا نعود لاحتلال شعب آخر؟ ولماذا يُضحّى بأبنائنا في حرب بلا أفق سياسي؟ المعارضة بدأت بالفعل في التحذير من أن الحكومة تقود البلاد إلى كارثة، ومع استمرار النزيف قد تتصاعد الاحتجاجات إلى مستوى أزمة سياسية تهدد بإسقاط الحكومة أو تدفع إلى انسحاب فوضوي شبيه بلبنان.
الصورة تبدو قاتمة من كل جانب. المؤسسة الأمنية تدرك أن الحكم العسكري لا يعني السيطرة بل الغرق، بينما المستوى السياسي يصر على المضي في قراره مدفوعًا بأجندات أيديولوجية متطرفة. والتجربة اللبنانية تقدم المثال الأقرب: احتلال طويل الأمد انتهى باستنزاف وخسائر وانسحاب مذل. لكن الفارق أن غزة أكثر تعقيدًا، والمقاومة فيها أكثر تجذّرًا، والبيئة الدولية أكثر حساسية، ما يجعل المخاطر مضاعفة.
النتيجة الحتمية أن الحكم العسكري لن يجلب الردع، بل سيغرق الاحتلال في أزمة مستمرة. لن يكون إعلان سيادة بل انهيار شرعية، ولن يكون نصرًا بل تكرارًا لمأساة قديمة في ظروف أشد خطورة. والتحذير الذي أطلقه أيال زامير لم يكن مجرد رأي، بل محاولة لإنقاذ المؤسسة من كارثة، لكن تجاهل هذه التحذيرات يعني أن الاحتلال ماضٍ نحو إعادة إنتاج فشله التاريخي، هذه المرة في غزة، حيث سيكون الثمن أعلى بكثير، ليس فقط بالدماء والموارد، بل أيضًا بالشرعية السياسية والقانونية. وعند تلك اللحظة قد تجد “إسرائيل” نفسها مضطرة للانسحاب مرة أخرى، ولكن بعد أن تكون قد دفعت ثمنًا باهظًا.