الجمعة  12 أيلول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

العمل بين المبالغة في المتطلبات وضياع الكفاءات/ بقلم: أ. لما عواد

2025-09-11 08:22:54 PM
العمل بين المبالغة في المتطلبات وضياع الكفاءات/ بقلم: أ. لما عواد

 

في الأمس القريب، كان الطريق إلى الوظيفة واضحًا كخيط الشمس، شهادة مناسبة، كفاءة معقولة، انتماء وولاء للمؤسسة، وفاعلية في الأداء؛ تلك كانت مفاتيح العبور. أما اليوم، فقد تحوّل المشهد إلى متاهة تتقاطع فيها المطالب: مهارات حياتية، تكنولوجية، لغات، قدرات إبداعية، وحتى ذكاء عاطفي. كثرت القوائم، وتشعّبت الدورات التدريبية، حتى صار المرء يلهث وراء تطوير لا ينتهي، ومع ذلك، يجد نفسه بعيدًا عن كرسي التوظيف. لماذا إذن تبدو النتائج معاكسة للجهد؟

من سوق الوظيفة إلى سوق المهارات

التحوّل الأول والأعمق هو انتقالنا من مفهوم "الوظيفة الثابتة" إلى ما يُعرف باقتصاد المرونة. الوظائف لم تعد عقودًا طويلة الأمد، بل مهام مؤقتة أو مشاريع قصيرة. هذا غيّر المعادلة: لم يعد يكفي أن تمتلك شهادة، بل يجب أن تعيد تشكيل نفسك كل بضع سنوات كي تظل صالحًا للمنافسة.

تضخم التوقعات المؤسسية

لم تعد الشركات تبحث عن موظف يؤدي المهمة، بل عن "الموظف المثالي" الذي يجمع في داخله خبيرًا تقنيًا، متحدثًا لبقًا، قائدًا مرنًا، ومبتكرًا لا يتوقف. قوائم المتطلبات الطويلة تحولت إلى فلاتر إقصائية أكثر من كونها احتياجات فعلية. بل إن كثيرًا من المهارات المدرجة في الإعلانات لا تُستخدم يوميًا داخل العمل.

ضغط التكنولوجيا

خوارزميات التوظيف (ATS) زادت الطين بلّة، آلاف السير الذاتية تُفرز أوتوماتيكيًا بناء على كلمات مفتاحية أو تنسيق معيّن. وهكذا، قد يُستبعد شخص كفء لأنه لم يستخدم كلمة "Teamwork" بالطريقة الصحيحة، بينما ينجو آخر أكثر براعة في التلاعب بالنصوص من دون أن يكون الأفضل أداءً.

فجوة التعليم والعمل

الجامعات في العالم العربي، بما فيها فلسطين، ما زالت تركّز على النظري أكثر من العملي، بينما يطلب السوق مهارات جاهزة للتطبيق. النتيجة: خريجون يطاردون عشرات التدريبات القصيرة، فيتراكم عندهم التشتت بدل التخصص.

النتائج العكسية

هذا التضخم في المطالب أنتج مفارقات صارخة:

  • شباب مُرهقون وظيفيًا قبل أن يدخلوا الوظيفة.
  • مسارات مهنية مبنية على تجميع دورات لا تصنع عمقًا حقيقيًا.
  • مؤسسات ترفع سقف التوقعات بينما تعرض رواتب متواضعة لا تتناسب مع المتطلبات.

لقد وقعنا في فخّ "الكثرَة المربِكة"، المؤسسات تبحث عن الكمال غير الموجود، والأفراد يعتقدون أن جمع المزيد من الدورات سيمنحهم الفرصة، لكن كليهما يكتشف أن الطريق مسدود. والحل لا يكون بمراكمة المتطلبات، بل بإعادة تعريف الكفاءة:

 العمق بدل التشتت،

 الواقعية بدل المبالغة،

وبناء جسور حقيقية بين التعليم وسوق العمل.

فمن دون هذه المراجعة، سيبقى المشهد كما هو سباقًا بلا خط نهاية، وفجوة تتسع بين طموحات الأفراد وانتظارات المؤسسات.