الأحد  14 أيلول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ورقة الضغط الممنوعة: هل تجرؤ السلطة على حل أجهزتها الأمنية؟/ بقلم: رامي بركات

2025-09-13 08:39:15 PM
ورقة الضغط الممنوعة: هل تجرؤ السلطة على حل أجهزتها الأمنية؟/ بقلم: رامي بركات

تُظهِر الأرقام الأخيرة أن ما يقارب 22% من موازنات السلطة الفلسطينية في العامين الماضيين ذهبت لصالح وزارة الداخلية والأمن الوطني. هذه النسبة الضخمة، والتي تُقدَّر بمئات الملايين من الدولارات سنويًا، مقارنة بمحدودية الموازنة العامة وأزمة الرواتب المتكررة، تكشف بوضوح المفارقة التي ترافق مشروع السلطة منذ نشأته: أجهزة أمنية مشبَّعة بالتمويل والدعم الدولي، فيما الاقتصاد الوطني يظل هشًّا، مُكبَّلًا بالاحتلال وبخضوع السلطة لمعادلات خارجية.

أزمة مالية مزمنة وذريعة المقاصة: أموال طائلة محتجزة

خلال الأشهر الأخيرة، دخلت مالية السلطة في حلقة جديدة من أزماتها مع قيام حكومة الاحتلال بـ حجز أو اقتطاع أموال المقاصة بالكامل، وهي المورد الأساسي لموازنة السلطة ورواتب الموظفين. هذه الأموال ليست هامشية؛ فإيرادات المقاصة (الضرائب والجمارك التي تجبيها إسرائيل نيابة عن السلطة بموجب اتفاقية باريس الاقتصادية) تشكل ما يقارب 64% من إجمالي الإيرادات المحلية للسلطة، أي نحو 700 مليون دولار سنويًا. الرواية الرسمية تلقي بالمسؤولية كاملة على هذا الحجز، وكأن الأزمة وليدة أشهر قليلة، بينما الواقع يشير إلى عجز هيكلي ممتد. السلطة لا تملك بدائل اقتصادية حقيقية مستقلة، ولم تصنع سياسات إنتاجية تقلل من تبعيتها لاقتصاد الاحتلال. والنتيجة: شلل مالي يتكرر دوره كأداة ضغط إسرائيلية، دون قدرة رام الله على تجاوزه.

الاقتراح الجذري: حلٌ اقتصادي في الظاهر، سياسي في العمق

في هذا السياق، وبعيدًا عن الحلول التقليدية العقيمة، كحل اقتصادي في ظاهره، يسترعي الانتباه طرح سيناريو لافت هو في جوهره سياسي واستراتيجي: الإعلان عن حل كافة الأجهزة الأمنية وتسليم أسلحتها الخفيفة بعهدة البعثة الأوروبية (EUPOL COPPS) التي أسهمت في تدريبها، مع الإبقاء فقط على جهاز الشرطة المدنية للمهام اليومية وحفظ النظام الداخلي.

الفكرة ليست تقنية ولا اقتصادية في لبّها، بل سياسية بامتياز، لأنها تمس أساس العلاقة غير المتكافئة بين السلطة والاحتلال: التنسيق الأمني. على مدى ثلاثة عقود، شكّل هذا التنسيق الركيزة الأبرز التي ضمنت استمرار السلطة سياسيًا وإداريًا، حتى عند انهيار الاقتصاد وتآكل الشرعية. تعطيل الأجهزة يعني تعطيل أحد أهم المصالح الحيوية للاحتلال داخل الضفة: تفويض إدارة الأمن الداخلي للسلطة، مما يضمن استقرارًا يخفض تكاليف الاحتلال المباشرة ويحمي مستوطناته.

حسابات السلطة: الصمت والشكوى بدلاً من الفعل

رغم أن مثل هذا التلويح يمكن أن يكون أداة ضغط فعّالة، أثبتت التجربة أن السلطة لم تتجاوز منذ نشأتها مربع الشكوى أو الرسائل الدبلوماسية إلى واشنطن وبروكسل. لن نجد في سجلها قرارات استراتيجية تمس جوهر الترتيبات مع الاحتلال، بل على العكس، أصبح التنسيق الأمني ثابتًا غير قابل للنقاش حتى في أكثر مراحل التوتر. تكتفي القيادة بترديد خطاب "الأزمة المالية الخانقة"، فيما أدوات الضغط الفعلية – سواء الاقتصادية أو الأمنية – غائبة عن قرارها أو يجري تفريغها من مضمونها.

دلالات وحسابات سياسية واجتماعية عميقة

مثل هذا الاقتراف، إن وجد الجرأة السياسية لتطبيقه، سيعني:

1. خلخلة البنية الاجتماعية-السياسية: يشكل التوظيف في الأجهزة الأمنية شبكة امتيازات ضخمة تضم عشرات الآلاف من الأفراد وعائلاتهم. هذه الشبكة ليست فقط مصدر رزق، بل هي رافعة سياسية وضامن للولاء للنظام. التضحية بهذه الرافعة تعني مجازفة القيادة بأسس سيطرتها الداخلية واستقرارها الاجتماعي، وهو ثمن تبدو غير مستعدة لدفعه.

2. كسر القواعد المفروضة: لم يسبق للسلطة أن تخلّت فعليًا عن أحد الأعمدة الأمنية التي يريدها الاحتلال منها. مثل هذه الخطوة ستقلب الطاولة على الاحتلال وتنقض منطق "الصفقة" القائم: الأمن مقابل البقاء. ستضع إسرائيل أمام خيارين مرّين: إما أن تحمل العبء الأمني الكامل والمكلف في الضفة الغربية، مما يعيدها إلى مربع الادعاء باحتلال مباشر بكل ما يتطلبه من تكاليف بشرية وسياسية ودولية، أو الانخراط في مفاوضات حقيقية.

3. كشف العجز الاستراتيجي: ستظهر السلطة عارية من أي أوراق ضغط حقيقية. فهي بين خيارين أحلاهما مرّ. إما التمسك بالأجهزة كأداة شرعية في نظر الاحتلال والمجتمع الدولي رغم استنزافها المالي وسحب شرعيتها الداخلية، أو القفز في المجهول ومواجهة الاحتلال مباشرة بتنازل "مقلق" سياسياً قد لا تتحمل تبعاته.

ماذا لو قلبت السلطة الطاولة؟ السيناريو المضاد

لو افترضنا أن السلطة نفذت التهديد، فإن الاحتلال سيواجه على الفور أزمة أمنية عميقة. انهيار التنسيق الأمني يعني:

· عودة الجيش الإسرائيلي لإدارة المدن الفلسطينية (مناطق A) يوميًا، وهو أمر مكلف ومثير للاحتقان ويذكر العالم بوجه الاحتلال القبيح.

· تصاعد محتمل للمقاومة في فراغ السلطة الأمني، مما يهدد المستوطنات.

· ضغط دولي على إسرائيل لعدم "إضعاف الشريك المعتدل"، حتى لو كان هذا الشريك قد حل أجهزته. هذه التكاليف قد تدفع إسرائيل إلى التراجع واستعجال إطلاق أموال المقاصة،لكنها قد تدفعها أيضًا إلى سياسة العقاب الجماعي وتشديد الحصار، في اختبار حقيقي لصمود الشعب الفلسطيني وقدرة قيادته على إدارة المواجهة.

الفجوة بين الخطاب والواقع: العجز الاستراتيجي

في النهاية يظهر أن الأزمة المالية وإن كانت عميقة، إلا أن طريقة إدارتها تكشف عن مأزق أكبر: غياب الجرأة السياسية على اتخاذ خطوات تعيد تعريف العلاقة مع الاحتلال. الحلول عند السلطة تُختزل في طلب المنح أو استعجال أموال المقاصة، بينما تبقى خيارات "كسر الحلقة" مجرّد شعارات لا تجد طريقًا للتنفيذ.

بمعنى آخر، العجز ليس ماليًا فقط، بل سياسي واستراتيجي في الأساس. فطالما بقيت الأجهزة الأمنية أولويّة بلا مراجعة، سيبقى الاحتلال الممسك بالأداة المالية والاقتصادية مطمئنًا، وسيبقى الشعب الفلسطيني يتقاسم عبء الأزمة ورواتب مقطّعة الأوصال، في سلطة لا تجرؤ حتى على اختبار أبسط أدوات الضغط التي بيدها، خائفة من مراجعة أساس وجودها نفسه.