الإثنين  15 أيلول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"أوسلو" والحالة الفلسطينية الراهنة| بقلم: ناجح شاهين

2025-09-15 09:51:38 AM
ناجح شاهين

اجترحت مقاومة الشعب الفلسطيني في غزة معجزة كفاحية عز نظيرها. وفي مواجهة قوة صهيونية/أطلسية مهولة واصلت القتال والصمود الذي بدأ يتحول إلى ظاهرة تستحق الدراسة الأكاديمية في الجامعات الكبرى. لكن ذلك الكفاح الإعجازي لم يتلق أي مساندة تذكر من المحيط إلى الخليج، وهو ما سمح ويسمح لإسرائيل بأن تستفيد من فارق القوة الهائل لتدمر غزة تدميراً ممنهجاً وحشياً يدمي القلوب، ويحرض الجمهور البسيط ضد المقاومة التي يتم تحميلها وفقاً لخطة العدو مسؤولية الدمار. نعم لقد تم التخلي عن غزة الشهيدة، البطلة الشجاعة، وقتاً يكاد يمتد من الأزل إلى الأبد، ثم بدأت عملية جلد مقاومتها واتهامها بالتسبب في المأساة التي تقع تحت أعيننا وأعين البشرية كلها دون أن يبدي أي فريق أي حراك مؤثر أو فعال.

لكن كيف تسنى أن يصل الناس، وخصوصاً العرب، إلى حالة الحياد الباهت المكتفي بالتفرج وانتظار نتيجة المباراة بين الفريقين الصهيوأمريكي والغزي كمن يراقب نزالاً بين محمد علي كلاي وهو في قمة قوته وطفل شجاع في السابعة من عمره؟!

أظن أن اتفاقية "أوسلو" قد مهدت الأجواء لهذه اللامبالاة العجيبة، ذلك أن الإسرائيلي نجح عن طريق تلك الاتفاقية في تحقيق ثلاثة إنجازات حاسمة:

 1. عزل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي. وذلك أمر شاركت فيه قيادة الشعب الفلسطيني التاريخية ممثلة بمنظمة التحرير وقائدها "الرمز" ياسر عرفات، التي حلمت، وعملت، طوال الوقت من أجل إبعاد العرب عن التدخل في الشأن الفلسطيني. وقد كانت سوريا/البعث أبرز العرب الذين تم إقصاؤهم عن التدخل في الملف الفلسطيني.

2. تكريس التوجهات الإقليمية لأنها أصبحت "مشروعة" تماماً بعد اتفاقية "أوسلو" بحيث اصبح من حق دول "سايكس بيكو" أن تدعي لنفسها صفة الأمة، لتنتشر شعارات علنية ُترفع عالياً في المطارات ومداخل المدن والموانئ، من قبيل "الأردن أولاً" أو "لبنان أولاً" أو "الإمارات أولاً" ...الخ. هكذا تم تمهيد التربة السياسية/النفسية لكي يمارس كل بلد سياسته، ويبحث عن مصالحه، بمنأى عن "الأمم" الأخرى، بما فيها "الأمة" الفلسطينية الحالمة بدولتها المستقلة.

3. شرذمة المؤسسة السياسية الفلسطينية ذاتها، وإقحامها في مصالح اقتصادية وسياسية تشل قدرتها على الفعل المبادر، وتصل بها إلى حالة شبيهة بما يعلنه الجميع حالياً من ناحية انتهاء زمن النضال المسلح ضد إسرائيل. وقد توصل رئيس السلطة الفلسطينية المؤسس ياسر عرفات نفسه إلى الإقرار بهذه "الحقيقة"، ثم تلاه خليفته محمود عباس الذي كان أكثر وضوحاً في هذا المجال. وقد مثل ذلك على ما يبدو بالنسبة لإسرائيل بداية الاستسلام الفلسطيني التام الذي يمهد الطريق دون عقبات تذكر للتقدم نحو تحقيق الهدف الاستراتيجي لإسرائيل.

وفي هذا السياق يبدو لنا أن إسرائيل قد فكرت في ذلك الهدف منذ 1967 بغرض إصلاح "الخطأ" الذي وقع في العام 1948، والمتمثل في "الفشل" في تفريغ فلسطين كلياً من سكانها. لذلك بدأت السياسة الإسرائيلية التي رسمها بعد حرب حزيران حزب العمل الذي قاد مؤسسوه حرب "الاستقلال" سنة 48 في خلق الوقائع على أرض الضفة الغربية، بغية ابتلاعها التدريجي. كانت فكرة ضم الضفة فورًا –مثلما حدث مع القدس مثلاً- فكرة غير واردة بالنظر إلى المعارضة الشديدة التي كانت ستواجهها إسرائيل من قبل العرب و "المجتمع الدولي" على السواء. لذلك تم تنفيذ سيرورة صبورة بعيدة المدى تم فيها استيطان الأراضي ببطء وثبات طوال السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم. بالطبع تسارعت هذه العملية بشكل مذهل بعد اتفاقية أوسلو، ثم تلقت دفعة أكبر بعد "الربيع العربي" الذي فتح الباب على مصراعيه للتحالف الإسرائيلي العلني والسري مع العديد من الدول العربية، خصوصاً وأن حضور القضية الفلسطينية قد تقزم كثيراً في وعي المواطن العربي وفي أروقة السياسة الدولية على السواء.

عند تفحص "الوقائع على الأرض" يظهر لنا أن أراض كثيرة في الضفة الغربية قد أصبحت بالفعل في حوزة المستوطنات الإسرائيلية التي ارتفع عدد سكانها إلى ما يزيد على 700 ألف نسمة. ويبدو أن الأحزمة العسكرية أصبحت تبتلع ما يربو على 36 في المئة من أرض الضفة، بينما تركت "أوسلو" مساحة تقترب من ثلثي الضفة في سياق أراضي "ج" الخاضعة للسيادة الإسرائيلية التامة.

الآن يبدو بحسب الساسة الأمريكيين الذين يمثلون الدولة ذات الأثر الحاسم أن الوقائع على الأرض لا تسمح بقيام دولة فلسطينية، وأن الضم التام لأراضي المنطقة "ج" أو أراضي الضفة كلها هو الخيار "العملي" الوحيد.

من هذا المنطلق  تعلن النخبة الصهيونية حالياً على الملأ نيتها، بل خطتها العملية، لضم مناطق "ج" إلى إسرائيل، ونستبعد في هذه المرحلة أن يضم المنطقة "أ" ذات الكثافة السكانية العالية.

إذن ربما تشرع إسرائيل الآن، مع المحافظة الشكلية على "أوسلو" والسلطة التي تحكم باسم أوسلو، في دفع سكان مناطق "ج" إلى مغادرتها إلى الدول العربية أو الأجنبية، وإن كان ذلك غير ممكن في الحالات كلها، فلا بد من دفع الناس إلى مناطق "أ". سيأتي الزمن الملائم مثلما يتصور قادة إسرائيل الذي سيتناقص فيه سكان مناطق "أ" ذاتها إلى حد أن ابتلاعها هي أيضاً لن يكون أمراً ممتنعاً. ولا بد أن ذلك الزمن سيكون قد أسس لقبول إسرائيل بما فيه الكفاية في "الشرق الأوسط" بحيث تصبح مناطق "أ" قضية تافهة لا تثير اهتمام أحد من المحيط إلى الخليج.

هذا هو الطريق الذي قادتنا إليه "أوسلو" حتى اللحظة. ولا بد أن قلب اتجاه حركة التاريخ في هذه اللحظة ليس بالأمر السهل على الإطلاق. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن حرباً كبيرة قد تكون ضرورية في هذه اللحظة التاريخية من أجل كبح جماح الحركة المتسارعة باتجاه القضاء التام على أي وجود عربي على أرض فلسطين. لكن هذا يتطلب أن ينهض الفلسطيني أولاً، وينفض عن نفسه غبار "أوسلو" وكل ما يتصل بها، ويحاول بالتحالف مع القوى الحية أن يجد خلطة الترياق المناسبة لإحداث هزة عميقة في الشروط السياسية القائمة بما يردع سائق القاطرة السياسية الأمريكية وركابها من عرب الخليج وغيرهم. لكننا دون الإفراط في "التشاؤم" نعتقد أن فرصة تاريخية صنعتها مقاومة غزة واليمن ولبنان في طريقها إلى الضياع إن لم تكن قد ضاعت بالفعل، وارتدت عكسياً بفعل التآمر والخذلان على السواء.