نحبس أنفاسنا هذه الساعات انتظاراً لرد حماس على مقترح الرئيس ترامب بشأن غزة.. كما حبسناها مطولاً قبل الإعلان عن تلك الخطة، وفي كل مرة كنا ننتظر فيها أي إعلان أو رد بهذا الخصوص.. وكأننا في ذلك إنما نمني النفس بأن نكون مخطئين فيما نعرفه إلى حد بعيد أساساً. لكننا في هذه المرة نمعن في حبس الأنفاس أكثر وأكثر، بينما يجلدنا السيد ترامب بتصريحات المتطلع للحصول على جائزة نوبل للسلام، داعياً الفلسطينيين إلى مزيد من النزوح والتشرد، "راجياً" منهم الهرب إلى مناطق أكثر أماناً بعيداً عن أماكن الموت المحتم الذي لم تسلم منه إلى الآن حبة تراب واحدة من أرض غزة.. متوعداً إياهم بجحيم آت لا محالة لو سولت حماس لنفسها عدم الرضوخ غير المشروط لكل حرف في خطته العتيدة، وكأن الفلسطينيين، وخاصة أبناء غزة، لم يروا حتى الآن ما هو أبشع وأشد قسوة من الجحيم غير المنقطع وغير المسبوق في تاريخ البشرية الحديث.
وبينما نجلس منتظرين، ممنين أنفسنا عبثاً بأن ترامب وحليفه نتنياهو قد نزل عليهم وحي من السماء يأمرهم بالتحول إلى حمامات تجلب لنا السلام، والنعيم والرخاء في عموم منطقتنا، دعونا نصف ما نحن عليه جميعاً: فالسلطة الفلسطينية غائبة، مغيبة، مهمشة تلملم جراحها، وتجتر شعاراتها، وتلاحق تجار المخدرات في رام الله (على الرغم من تقديرنا العالي والصادق لذلك طبعاً) في اللحظات التي يسمح لقواها الأمنية (يقول البعض بأنها قوات تأمينية وليست أمنية) بالتواجد في شوارع رام الله ومحيط المقاطعة بين اجتياح لقوات الاحتلال الإسرائيلي وهجمات لقطعان مستوطنيه. أما ما يشغلها فعلاً فهو أنها كيف ستتمكن من تحقيق امتداد لكل ما هي عليه في الضفة الغربية إلى قطاع غزة، وكيف لها الحصول على دعم دولي لذلك من خلال إصلاحات موعودة لم نر ما يشير إليها ولا من بعيد سوى بعض التبرجات واللمسات التجميلية التي لا تعدو كونها جزءًا من صراع داخلي على مستقبل القيادة والسلطة بين أبناء البيت الواحد. لا يسعني إلا أن أتساءل هنا: على أي فتات يقتتلون!!!
أما القوى الإقليمية، فشغلها الشاغل هو إقناع نفسها بأن السلام قادم، وبأن أبواب التطبيع ستفتح على مصراعيها أخيراً، وأن مزيداً من الازدهار الاقتصادي بفضل "النو هاو" الإسرائيلي في طريقه إلى جيوبهم، وهو ما يمر عبر إقناع حماس بالقبول بخطة ترامب، دون أي تحفظ أو مراوغة. أولم يسأل أي منهم نفسه بأنه إذا كانت الخطة لإنهاء صراع بين طرفين، فلماذا تناقش وتعدل وتنمق مع واحد منهما فقط؟ ولماذا يسمح لنتنياهو ما هو محرم على غيره؟ ربما كان حري بهم تخصيص بعض الوقت، ولو لدقائق، للعودة على فيديوهات لقاءاتهم مع الرئيس ترامب، وطريقة حديثهم إليه، أو حتى مجرد الوقوف أمامه أو الجلوس إلى جانبه، ومقارنتها بتلك التي تخص لقاءاته بنتنياهو.. فالمشاهد المراقب يمكنه أن يرى الفرق الشاسع بسهولة، دون أن ينسى بأننا أمام من يفترض بأنهم يمثلون ما يزيد عن 400 مليون إنسان مسحوق بينما يمثل نتنياهو ما لا يزيد عن 10 ملايين مواطن بالكاد. فليسمح لي القارئ أن أمتنع عن الإجابة هنا.
بالنسبة لحماس وقياداتها، كان الله في عونهم.. فهل يركبون الموجة ويعلنون الهزيمة بقبولهم لخطة ترامب التي وضع عليها لمساته السحرية ونمقها نتنياهو؟ أم عليهم استغلال اللحظة التي تشرأب بها إليهم العيون كي يبقوا محوراً لا مفر منه وورقة صعبة كما يقولون؟ أم أن عليهم القيام بما هو أصعب من ذلك، ألا وهو التجرؤ على ترامب، ونتنياهو، وقادة الإقليم بطلب التعامل معهم كطرف ولو ضعيف في المسألة، وبالتالي السماح لهم بمناقشة الخطة وتطويرها، بروح بناءة طبعاً، لا لشيء إنما لتحقيق الاستدامة الحقيقية لما ينتج عنها؟ ربما أن ما يقض مضجعهم في هذه اللحظات، وأنا هنا أحسن الظن، ليس هو مصائر قياداتهم الشخصية، إنما الجدل المتعلق بالنصر والهزيمة بعد كل هذه التضحيات وهذا الألم المستمر. ولربما يفيد في هذا السياق أن نتذكر مبدأً بسيطاً من مبادئ لعبة كرة القدم القائمة على ضرورة العمل على الحد من الوقت الذي تتواجد فيه الكرة في ملعبك، وضرورة العمل على أن تكون لأطول وقت ممكن في ملعب خصمك، حيث أن ذلك يقلل من مخاطر الهزيمة ويزيد من فرص الفوز. أعتقد بأن قيادات التنظيم على دراية كافية بهذا المبدأ البسيط، وقد يغتنمون الفرصة لإعادة الكرة إلى ملعب الخصم بمهنية وذكاء، فذلك قد يربكه ويجعله أكثر حيرة في أمره أمام ما رأيناه مؤخراً من زخم وضغوط مارسها العالم بأسره تعبيراً عما يغلي في شوارع ما لا يحصى من عواصم من رفض لوحشيته.
وأما نحن، بني هذه البلاد المخذولة والمغلوبة على أمرها، فنجلس في المقاهي والمجالس والدواوين، نتابع ما حل بفنانينا إذا تزوجوا أو تطلقوا، أو حصد أحدهم ملايين المشاهدات لجديده على وسائل التواصل الاجتماعي، بينما نستهجن كيف لجيل "زد 212" أن يخرج إلى شوارع المغرب مندداً بالفساد وانسداد الأفق وعجز حكومته عن توفير بارقة أمل واحدة لشباب لا يريد سوى عيشاً كريما يشابه، ولو من بعيد، ما يراه على شاشة جواله من حياة يومية لأمثاله حول العالم، وسرعان من نبتسم، غالباً بتهكم، ونعود إلى قنوات اللهو ووسائله.. إلا أن ذلك ليس هو أكثر ما يهمني هنا، إنما هو أننا لم نعد نطيق رؤية نشرات الأخبار ولا حتى "البوستات" المتعلقة بالإبادة والتجويع والتهجير البشع والمستمر في غزة، ونصم آذاننا عن صرخة أطفال غزة وأمهاتهم وآبائهم بينما يدفعون ثمن ما لم تقترفه أيديهم.. وكأنهم القربان الذي وجدنا فيه ضالتنا وخلاصنا من قدر لا بد وأنه محتوم طالما بقينا على هذه الحال. وفوق ذلك كله، فنحن لا نصمت، وننظّر، ونتبجح، وندلي بدلونا، ونتبرع بالآراء والأفكار، داعين أهل غزة لمزيد من "الصمود/الموت"، لأجلنا لا لأجل أنفسهم فهم لم يبق لديهم شيء يموتون لأجله.. وداعين حماس لرفض الخطة، وعدم الاستسلام، والاحتياط من المكيدة، وتفجير فجر لأمة نائمة قد لا تصلح أعينها لرؤيته إن حلّ.. وحالنا في ذلك كحال المثل الشعبي الذي يطيب لأمي تكراره كلما سمعتني وأصدقائي نجتر ذات التنظير والحماسة، بينما نحتسي قهوتنا ونتمدد على أريكتنا المريحة وفي المكان أصداء موسيقانا المفضلة، المثل القائل: "نفش الديكُ ريشَه ليخيفنا فبانت عوْرَتُه...".