مقدمة: الاحتواء السياسي
في المشهد السياسي المعاصر، تتجلّى ظاهرة الاحتواء السياسي بوصفها أداة لإدارة التناقضات لا لتسويتها، وآلية لإبقاء الأزمات حيّة ولكن مضبوطة الإيقاع. فبدلاً من معالجة الجذور، تُوجَّه الجهود نحو ضبط السطح؛ تُهدَّأ الانفجارات دون تفكيك أسبابها، وتُعالج الأعراض دون المساس بالمرض ذاته.
الاحتواء السياسي هو سياسة “التنفيس المحسوب”: السماح بقدر من التوتر امنع الانفجار، مع الحفاظ على ميزان القوى القائم لا تغييره. في جوهره، هو شكل من أشكال السيطرة الناعمة التي تُلبس الإكراه ثوب التوافق، وتحوّل الصدام إلى حوارٍ محدود السقف.
ويقف قريباً منه — بل هو أحد تجلياته المتقدمة — ما يمكن تسميته بـ نظام الإدارة بالأزمة. فبينما تُعنى “إدارة الأزمة” بتجاوزها أو احتوائها مؤقتاً للوصول إلى حلٍّ دائم، فإن “الإدارة بالأزمة” تقوم على توظيف الأزمة ذاتها كأداة حكم واستقرار. تُصبح الأزمة مورداً سياسياً واقتصادياً، وسلاحاً لتبرير العجز وإدامة الولاءات.
في الحالة الفلسطينية على وجه الخصوص، يمكن رؤية الاحتواء السياسي بنسخته الدولية وقد تحول إلى بديل عن القرار الوطني المستقل. حيث تُدار القضية في غرف المؤتمرات وممرات التمويل، بينما يبقى جوهرها — الاحتلال وحق تقرير المصير — مؤجلاً أو مُفرَّغاً من مضمونه تحت شعارات “السلام”، “الاستقرار”، و“الشرعية الدولية”.
الاحتواء كوصاية جديدة
إذا تعمّقنا أكثر في طبيعة هذا الاحتواء السياسي، نجد أنه لم يعد مجرد إدارة للعلاقات أو ضبط لموازين القوى، بل تحوّل إلى نظام وصاية حديث، أو لنقل انتداب جديد بوسائل ناعمة وبمسميات مختلفة.
فما كان في القرن العشرين يُمارس بالقوة المباشرة والاحتلال العسكري، يُمارس اليوم عبر أدوات التمويل، والدبلوماسية، والتنسيق الأمني الاستخباري بين دول الانتداب، وشبكات “الشرعية الدولية”.
الاحتواء المعاصر أعاد إنتاج فكرة الانتداب، لكن بطابع إقليمي ودولي مشترك.
لم تعد السيطرة تنبع من دولة استعمارية واحدة، بل من منظومة كاملة تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى والإقليمية، بحيث يُعاد تعريف “القرار الوطني” ليصبح جزءاً من “التوافق الدولي”. وهنا يكمن الخطر الأكبر: فبدل أن تكون الإرادة الوطنية هي الأصل والتنسيق الخارجي تابعاً لها، أصبح العكس هو القاعدة، الداخل يُدار بقرار خارجي مبرَّراً بالشرعية الدولية والضرورة الإنسانية.
المفارقة أن هذا النمط من الوصاية الجديدة يأتي متخفياً تحت خطاب “التمكين الذاتي” و“بناء المؤسسات”، بينما جوهره إدامة التبعية عبر التحكم في القرار.
فما كان يُسمّى يوماً “الحكم الذاتي” بوصفه خطوة نحو تقرير المصير، يُستبدل اليوم بنظام تدويل يُدار بالتعيين لا بالانتخاب.
الممثلون السياسيون لا يُفرَزون من إرادة الناس، بل من توازنات المانحين،
والسلطة لا تُشتقّ من الشرعية الشعبية بل من قبول المنظومة الإقليمية والدولية.
بهذا الشكل يتحوّل الشعب من صاحب قرار إلى موضوع إدارة،
وتُختزل الوطنية في وظيفة،
ويُختصر التحرر في “التنمية تحت الاحتلال”.
إنه الانتداب في نسخته الرقمية البيروقراطية،
وصاية تُمارَس لا بهدف السيطرة والاستقلالية بل باسم “المساعدة”،
وتستمد شرعيتها من خلال التمويل والاعتراف الدبلوماسي بدلا من رؤية الشعب وشرعيته الحقيقية.
الاحتواء السياسي ومشتقاته: انتداب ووصاية جديدة
أدوات الانتداب الجديد
يعمل هذا الانتداب الجديد عبر شبكة متكاملة من الأدوات تُقدَّم في ظاهرها كوسائل “بناء”، لكنها في حقيقتها أدوات ضبط.
في مقدمتها التمويل الخارجي الذي تحوّل من وسيلة دعم إلى أداة توجيه. فالمشاريع والموازنات تُربط بشروط سياسية واقتصادية محددة، تُعيد رسم أولويات السلطة والمجتمع بما يخدم استقرار النظام القائم لا تحرره. وهكذا يصبح التمويل بديلاً عن القرار المستقل، والمساعدة بديلاً عن السيادة.
أما التنسيق الأمني الاستخباري بين دول الانتداب، فيشكّل الضمانة الصلبة لبقاء هذا الترتيب. إذ يُعاد تعريف “الأمن” لا باعتباره حمايةً للمواطن أو الوطن، بل باعتباره حمايةً للنظام من أي تغيير يهدّد البنية التي صُمّمت دولياً. تُنسَّق المعلومات، وتُحدَّد الأهداف، وتُدار الأزمات ضمن حدود تضمن ألّا يخرج المشهد عن السيطرة.
ويُكمَّل المشهد عبر المؤسسات المدنية والمنظمات الدولية التي تعمل بوصفها أذرعاً ناعمة لإدارة الوعي وتوجيه الخطاب. فهي تُعيد تعريف “المواطنة” و“المشاركة” ضمن أطر آمنة سياسياً، تُحوّل العمل الوطني إلى نشاط تنموي أو حقوقي منزوع الدسم الثوري. بهذا الشكل تُستبدل السياسة بالإدارة، والمقاومة بالتقارير، والقرار الوطني بورقة مشروع مموّل.
إنها منظومة ثلاثية: التمويل يضبط الاقتصاد، الأمن يضبط الفعل، والمجتمع المدني يضبط الوعي.
وعند اجتماع هذه الأذرع في يد منظومة دولية إقليمية متشابكة، يصبح الشعب نفسه محكوماً بلغة “الشراكة” التي لا تمنحه شراكة حقيقية، بل دوراً محدوداً في مسرح أُعيدت كتابة نصوصه مسبقاً.
خاتمة وتوصيات
الخلاص من هذا الانتداب الجديد أو نظام الاحتواء السياسي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر إرادة شعبية حقيقية وقوية. حيث لا تكفي البيانات أو المؤتمرات أو القرارات الدولية، لأنها غالباً ما تُعيد إنتاج شروط السيطرة نفسها ولكن بشكل مختلف، مهما كانت نواياها ظاهرياً.
السبيل الوحيد يكمن في المطالبة بحق التعبير الشعبي عن إرادته، وأوضح أدوات ذلك هي إجراء انتخابات حرة وعامة نزيهة. الانتخابات ليست مجرد عملية شكلية، بل اختبار حقيقي للسيادة: من يختاره الشعب، هو من يمثل تطلعاته، ومن يُحاسب على الأداء. إنها الوسيلة الوحيدة والفاعلة لكسر المنظومة الثلاثية للسيطرة — التمويل، الأمن، المجتمع المدني التابع — وإعادة السلطة إلى أصحابها الشرعيين.
الإرادة الشعبية تخلق حقيقة ميدانية: السلطة التي تنبع من الشارع لا يمكن للتمويل أو التنسيق الأمني الدولي أو المنظمات الدولية أن تُعيد صياغتها بالكامل. إنها تعيد حق تقرير المصير إلى مكانه الطبيعي، وتحوّل أي إدارة بالأزمة إلى إدارة وطنية حقيقية تُعالج المرض لا الأعراض فقط.
بهذا المعنى، التحرر الحقيقي يبدأ بالانتخاب الشعبي، وبالمطالبة الفعلية بممارسة الشعب لحقه في تقرير مستقبله ومصيره. إن أي تأجيل لهذا الحق يعني استمرار الأزمة، واستمرار الاحتواء، واستمرار الوصاية الدولية والإقليمية تحت أسماء جديدة.