تاريخياً؛ ترفض إسرائيل انتشار قوات دولية تابعة للأمم المتحدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ ترى فيها اعترافاً بالكيانية الفلسطينية المستقلة، كما ترسم خطاً فاصلاً يعطل مشاريع الاستيطان والضم والتدمير والتهجير، وحتى ولو كانت هذه القوة مجردة من صلاحيات التصدي للتجاوزات الإسرائيلية، فإنها في أسوأ الحالات، سوف تشكل شاهداً دولياً، غير قابل للتشكيك في صحة تقاريره، حول جرائم الاحتلال الإسرائيلي، ما يجبر العالم للتحرك والدعوة لحل قضية فلسطين بموجب الشرعية الدولية.
هذه المرة، وافقت إسرائيل على «قوة الاستقرار» في قطاع غزة، وتصريحات أركان حكومتها وتحركاتها، بما تتضمنه من أطماع وامتيازات تشير إلى التالي:
• أنها توافق على قوة دولية، شرط أن يكون لها حق الفيتو والإعتراض على أي من الأطراف المشاركة فيها، كتركيا وقطر مثلاً، وربما دول أخرى ما زالت طي الكتمان، وذريعتها في ذلك أن هذه الدول هي قريبة من حماس ويمكن لها أن تتغاضى عن الكثير من القضايا الواجب ردعها، وفقاً للمعايير الإسرائيلية، كالسلاح ومعامل إنتاجه ومستودعاته، والأنفاق وغيرها، وفقاً لما تعتقده إسرائيل.
• أن تكون قوة نافذة وذات سطوة، بحيث تتولى إنجاز ما عجزت إسرائيل نفسها عن إنجازه، كالقضاء على ما يسمى «البنية التحتية للمقاومة»، وهو تعبير واسع الدلالة، قد لا يقف عند حدود البنية المادية، كما ذكرناها سابقاً بل قد يتوسع ليطال المقاتلين والقيادات، بحيث يطرح على بساط النقاش مصير هؤلاء، والعودة إلى فكرة نفي القيادات الفلسطينية ليس من حماس فقط، بل من عموم فصائل العمل الوطني والإسلامي، على اعتبار أن هؤلاء يشكلون عائقاً أمام توفير الاستقرار السياسي، بما في ذلك ما ورد في ورقة ترامب (النقاط العشرون) من مهام تتعلق بمكافحة الفكر الإرهابي، ونشر التسامح والمحبة، والقضاء على التحريض والكراهية.
• رفض إسرائيل المبدأي أن يكون حدود صلاحيات «قوة الاستقرار»، مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تخوفاً من أن تضطر الولايات المتحدة لإنقاذ مشروعها من الفيتو إلى تقديم تنازلات أو ممارسة المرونة، بما لا يرضي إسرائيل، لذلك هي تبحث عن وسيلة تلتف بها حول تفويض مجلس الأمن للقوة الدولية إما من خلال الضغط على الولايات المتحدة للوصول إلى تفويض غامض، يبقي صلاحيات إدارة القوة، وتسليحها ومهامها حكراً على مجلس السلام الذي يرأسه ترامب، ويتولى بلير منصب الحاكم التنفيذي فيه.
• كذلك تحاول إسرائيل أن تلتف على أية حدود تحدّ من صلاحيات «قوة الاستقرار» باللجوء إلى الصيغ التي لجأت إليها في مفاوضات أوسلو، أي أن تقدم لها الولايات المتحدة رسائل خاصة (سرية) تطمئن فيها إسرائيل وتمنحها (سراً) صلاحية الاعتراض ولو شكل ذلك خرقاً لحدود التفويض الأممي للقوة.
• لا تخفي إسرائيل مواقفها هذه كلها، بالتهديد شبه اليومي لرئيس حكومة إسرائيل ووزير حربه ووزير خارجيته، بأن على «قوة الاستقرار» أن تنجز ما عجزت إسرائيل عنه، بالعودة إلى الحرب والتدخل المباشر، للقيام بما تراه ملحاً لإنجاز القضاء على المقاومة واقتلاع جذورها.
وفي السياق؛ لا بد من ملاحظة أن إسرائيل حولت وقف إطلاق النار الذي يتغنى الرئيس ترامب بمتانته، إلى وقف هش للنار، من خلال سلسلة الانتهاكات والاختراقات اليومية، في عمليات تستهدف ما تدعيه مواقع للمقاومة، ما زالت تشكل خطراً على إسرائيل، بما في ذلك ركاب السيارات المدنية أو الدراجات النارية، أو سكان آمنين في سكناهم في مدينة غزة أو خانيونس أو دير البلح أو غيرها، وهي كلها ادعاءات هدفها أن تكرس واقعاً يمنحها الصلاحية للتدخل أمنياً لاستكمال مهام «قوة الاستقرار» وسد الثغرات في أدائها، المعرض دوماً من قبل إسرائيل للتشكيك لا لشيء سوى لطلب المزيد من الوظائف والمهام المعقدة، بما يحقق الأهداف الإسرائيلية الاستراتيجية في القطاع، التي عجزت عن تحقيقها.
إلى ذلك؛ يتوجب السؤال: إلى متى ستبقى هذه القوة في قطاع غزة؟!...
المشروع الأميركي يتحدث عن عامين، يشترط بعدها لنقل السلطة إلى قيادة رام الله، أن تنجز الحكومة الفلسطينية برنامج الإصلاح المطلوب منها أميركياً، ما يضع علامة استفهام حول السقف الزمني لهذا الإصلاح المنشود أميركياً، وهو سيكون بالضرورة بيد الولايات المتحدة (ومعها إسرائيل)، خاصة وأنه برنامج إصلاح لا يطال الأفراد في المؤسسة فحسب، بل يطال المؤسسة نفسها، وخططها وبرامجها ومعاييرها السياسية، وخلفياتها الثقافية والفكرية والبرنامجية، من برامج تعليم وقوانين إعلام وأحزاب، وبنية للنظام السياسي، يكون مؤهلاً للقيام بواجب الانصياع للاستحقاقات الكبرى المطلوبة منه لينال الثقة بأنه بات نظاماً مؤهلاً لبناء مجتمع صالح للتعايش مع إسرائيل، ولو على حساب مصالحه وحقوقه الوطنية المشروعة (كالقدس واللاجئين، ووحدة إقليم الدولة متحرراً من المستوطنات ...).
مقبلون بالضرورة على مرحلة فاصلة، بالمعنى العميق للكلمة، في ظل تشتت فلسطيني يعاند الوصول لاستعادة الوحدة الداخلية، ولعل هذا أخطر ما في هذه المرحلة
