في زمنٍ يتهاوى فيه كل ما ظننّاه ثابتًا، القانون الدولي، الأخلاق السياسية، ومعايير الإنسانية. تظهر وثيقة كايروس الثانية ليس فقط كإعلان لاهوتي، بل كصفعة أخلاقية في وجه عالم اختار أن يقف على أنقاض غزة ويصمت.
وثيقة تقول ببساطة ما عجز عنه كثيرون: نحن في زمن إبادة.
هذه ليست مبالغة لغوية، بل تسمية جريئة لواقع حاول الغرب، كما كثير من المؤسسات الدينية الكبرى، تغليفه بمفردات رمادية مثل "نزاع" و"تجدد للعنف" و"دوامة". لكن الكنائس الفلسطينية خرجت من المساحة الحيادية، وقررت أن تكتب الحقيقة كما تُعاش هنا، لا كما تُروى هناك.
الإيمان كفعل مقاومة… لا كوعظ أخلاقي
ما يجعل الوثيقة استثنائية ليس فقط مضمونها، بل جرأتها في قلب مفهوم "الإيمان". فالكنيسة، التي لطالما وُضعت في خانة التعزية، تتحول عبر هذا النص إلى مساحة مواجهة:
الوثيقة تعيد تعريف الدور الروحي: الإيمان ليس استسلامًا… الإيمان مقاومة. والمسيحي الفلسطيني ليس متفرجًا على مسرح المأساة، بل شريكًا في معركة الوجود.
هذه اللغة الحاسمة ليست صدفة؛ إنها رد على عقود من استغلال الاحتلال للخطاب الديني لتطبيع العنف وتحويل الأرض الفلسطينية إلى مسرح رواية مقدسة تُستخدم لتبرير الإلغاء والطرد والقتل البطيء.
بيت لحم… مدينة يولد فيها خطاب جديد
اختيار بيت لحم لإطلاق الوثيقة ليس تفصيلًا. فالمدينة التي حملت رسالة "السلام على الأرض" تُعلن اليوم أن السلام ليس نقيض المقاومة، وأن العدالة شرط لأي معنى للسلام.
في بيت لحم، لم تقف الكنائس لإطلاق نص روحاني منزّه عن الواقع، بل أعلنت بوضوح: إن كان الله إله العدالة، فالصمت جريمة. وإن كانت الكنيسة بيتًا للإيمان، فلا بد أن تكون أيضًا بيتًا للحقيقة.
هذا الحدث يعيد المركز إلى فلسطين إلى الكنيسة الأصلية، إلى جرحها، وإلى قدرتها على إعادة كتابة خطاب يرفض أن تكون المسيحية امتدادًا للامتيازات السياسية الغربية.
المسيحيون الفلسطينيون… ليسوا "جالية" بل شعب
لطالما حاول البعض تقديم المسيحيين الفلسطينيين كأقلية تحتاج حماية، أو كجمهور غير سياسي، أو كجزء يقع خارج المعركة الكبرى. لكن وثيقة كايروس الثانية تنسف هذا كله. هي تقول بوضوح: نحن جزء من الشعب الذي يُذبح، يُشرّد، يُحاصر، ويقاوم. ولسنا ضيوفًا على الأرض، ولا مجرّد “تنوع” يُستدعى في بيانات العلاقات العامة السياسية.
الوثيقة تعيد رسم الهوية المسيحية الفلسطينية كهوية مقاومة، واعية، وراديكالية أخلاقيًا. وتعيد للمكوّن المسيحي دوره كفاعل سياسي وصوت محوري في تشكيل السردية الفلسطينية الحديثة.
المعيار الأخلاقي الجديد… الذي لا يحتمل الرمادية
ترسم الوثيقة خطًا واضحًا لا يمكن التلاعب به: الكرامة الإنسانية ليست بندًا سياسيًا. لا تُقاس بمصالح دولة كبرى، ولا تُعاد صياغتها تحت ضغط تحالفات عابرة.
هذا الطرح يضع الكنائس العالمية أمام اختبار نادر: إمّا أن تقول الحقيقة، أو تتحول إلى شريك صامت في الجريمة.
كايروس الثانية تنزع الغطاء الأخلاقي عن كل خطاب ديني يبرر العنف أو يجمّله، وتحول المسيحية من مساحة رمزية إلى مساحة نضالية تقول: "لسنا محايدين… نحن مع الإنسان، ومع العدالة، ومع من يُقتلون لأن العالم اختار أن يصمت" .
هذه ليست وثيقة… هذه لحظة تاريخية
كايروس الثانية ليست نصًا عابرًا. هي وثيقة تؤسّس لزمن جديد، تُعيد فيه الكنيسة الفلسطينية تعريف نفسها، وتطرح خطابًا مقاومًا يواجه العالم بضميره الضائع. هي محاولة جريئة لإعادة الروح إلى مكان كانت فيه الأخلاق تُقاس بمدى القدرة على رؤية الألم.
وهي، قبل كل شيء، رسالة تقول: نحن هنا…نكتب، نشهد، نسمّي الأشياء بأسمائها، ونرفض أن نُمحى.
