الحدث العربي والدولي
تحول قرار عراقي، صادر عن لجنة رسمية معنية بتجميد أصول الجماعات الإرهابية، بتصنيف "حزب الله" اللبناني وجماعة "أنصار الله" اليمنية (الحوثيين) كمنظمتين إرهابيتين، إلى أزمة سياسية عميقة في بغداد. هذه الأزمة دفعت رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، للتدخل السريع والتراجع عن القرار، واصفاً إياه بـ "الخطأ" ومطالباً بـ "إجراء تحقيق عاجل وتحديد المسؤولية ومحاسبة المقصرين".
ويطرح التراجع المربك تساؤلات حاسمة حول دوافعه الحقيقية: هل هو مجرد سوء تنسيق وإرباك إداري، أم أنه ناجم عن ضغوط داخلية هائلة من الميليشيات العراقية الموالية لإيران، أم أنه ارتداد للصراع المستمر بين محاولات بغداد لـ"فك الارتباط" عن المحور الإيراني تحت الضغوط الأمريكية؟
قرار قديم يتفجر في وجه الحكومة
على الرغم من أن الخبر انتشر على نطاق واسع يوم أمس الخميس، إلا أن جذور القرار تعود إلى 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. ومصدر القرار هو "لجنة تجميد أصول الجماعات الإرهابية"، وهي هيئة رفيعة المستوى تابعة للأمانة العامة لمجلس الوزراء وتضم ممثلين عن 13 وزارة ومؤسسة أمنية واستخبارية، بما في ذلك جهازا المخابرات والأمن القومي، ووزارات الداخلية والخارجية والمالية. ويرأس اللجنة وكيل البنك المركزي العراقي، وتُعد قراراتها باتة وملزمة لجميع مؤسسات الدولة العراقية.
ونُشر القرار رقم (61)، الذي يصنف حزب الله والحوثيين، في جريدة "الوقائع" العراقية الرسمية، في عددها الصادر بتاريخ 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وبمجرد نشره، أصبح القرار قيد التنفيذ الفعلي، لا سيما بالنسبة للجهات المالية كالبنوك والمصارف والدوائر الحدودية (الجمارك والسيطرة النوعية).
واللافت للنظر أن جميع التنظيمات الـ 24 التي شملها القرار تقع خارج العراق ولم تنفذ أنشطة عسكرية داخله. كما ويجمعها عامل مشترك وحيد هو إدراجها بالفعل ضمن قوائم الإرهاب الصادرة عن مجلس الأمن ووزارتي الخارجية والخزانة الأمريكيتين. ظل القرار غير ملاحظ لأسابيع حتى بدأ نواب محسوبون على قوى وفصائل مسلحة موالية لإيران بنشره وتداوله ضمن توقيت واحد وصيغة متشابهة تقريباً، ما أشعل فتيل الأزمة ووجه الهجوم مباشرة نحو رئيس الوزراء.
تنصّل حكومي وتوجيه بالتحقيق العاجل
بعد ساعات من الكشف عن الوثائق، سارعت الحكومة العراقية إلى إصدار بيانين متتاليين للتنصل من القرار، في محاولة لاحتواء الأزمة. أولاً، أصدر مكتب لجنة تجميد أصول المنظمات الإرهابية بياناً أكد فيه أن القرار رقم 61 جاء استناداً إلى قرارات مجلس الأمن، وأن ما نُشر جاء "قبل التنقيح"، وسيتم تصحيحه بحذف الأسماء غير المرتبطة بتنظيمي "داعش والقاعدة"، في إشارة واضحة لحزب الله والحوثيين.
ثانياً، صدر عن مكتب رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بيان شديد اللهجة وجه فيه "بإجراء تحقيق عاجل وتحديد المسؤولية ومحاسبة المقصرين" في ما وصفه بـ"خطأ" في قرار اللجنة، مشيراً إلى أن الموافقة العراقية لتجميد الأموال كانت مقتصرة فقط على الكيانات والأفراد المرتبطين بـ"داعش والقاعدة" بناءً على طلب ماليزي.
كما أكد السوداني على "مواقف الحكومة السياسية والإنسانية المبدئية من العدوان على أهلنا في لبنان أو في فلسطين"، في محاولة لطمأنة القوى الموالية لإيران والتأكيد على أن الموقف الرسمي لا يخضع للمزايدات. بالتزامن، أصدر نائب رئيس البرلمان محسن المندلاوي بياناً دعا فيه اللجنة المختصة "إلى الإسراع في مراجعة القرار وتصحيح الأخطاء" مع المطالبة "بالاهتمام بالحركات والأحزاب التي قاومت العدو الصهيوني".
انقسام حاد: ضغوط خارجية أم مناكفات داخلية؟
وقد أثار التراجع الحكومي انقساماً حاداً بين الأوساط السياسية العراقية. فقد اتهم عضو تحالف "الإطار التنسيقي" (التحالف الشيعي الحاكم) عدي الخدران، الحكومة بأن خطوة الإدراج جاءت "استجابة لضغوط وتهديدات أميركية"، مستبعداً أن يكون الأمر مجرد خطأ إداري، وحذر من أن قرارات كهذه قد تدفع الحكومة مستقبلاً إلى إدراج فصائل عراقية في قوائم الإرهاب.
وذهب القيادي في كتائب حزب الله العراقية، حسين مؤنس، إلى وصف حكومة السوداني بأنها "سلطة مرتجفة تابعة" و"لا تملك الحد الأدنى من الكرامة". في المقابل، شكك عضو "الإطار التنسيقي" يوسف الكلابي في إمكانية التراجع، مؤكداً أن ما يُنشر في "الوقائع العراقية" يعد نهائياً ولا يُعدل أو يُلغى إلا بقرار أو قانون جديد، وأن ادعاء التراجع هو مجرد "تهدئة إعلامية لا أكثر". وكشف مستشار بارز في الحكومة، طلب عدم ذكر اسمه، أن القرار "يتماشى مع اشتراطات الخزانة الأميركية" التي تضغط على العراق لمكافحة تهريب الدولار واستفادة "وكلاء إيران" من النظام المالي العراقي، معتبراً أن إثارة الموضوع ونشره الآن قد يكون "مقصوداً" من خصوم السوداني داخل الإطار التنسيقي المعارضين لولايته الثانية.
إحراج قانوني ومالي يهدد بغداد
يرى الخبير القانوني والسياسي أحمد الموسوي أن الإدراج ثم التراجع من قبل الحكومة العراقية يمثل "إحراجاً دولياً" لبغداد، إذ يعني "تأكيداً لاتهامات أميركية وغربية بأن العراق يمول أو يدعم حزب الله اللبناني والحوثيين".
ويشدد الموسوي على أن النشر في الجريدة الرسمية (الوقائع) يمنح القرار أثراً قانونياً لا يمكن إلغاؤه أو التراجع عنه بشكل مباشر، بل يتطلب ذلك قانوناً أو قراراً جديداً يصدر بالآلية نفسها، معتبراً أن مسألة الخطأ غير مُقنعة بالنظر إلى حجم اللجنة التي تضم ممثلين عن 13 جهة وزارية.
من الناحية المالية، أكد الناشط السياسي مجاشع التميمي أن العراق "ملزم عملياً بالتعامل مع أي تصنيف يصدر عن الخزانة الأميركية" طالما أن قطاعه المالي مرتبط بالدولار، وأن القرار يحافظ على الاستقرار المالي ويجنب بغداد عقوبات مؤلمة، ويبعث رسالة طمأنة إلى واشنطن بالتزام العراق بضوابط الامتثال المالي. أما الخبير المالي حسن عباس الطائي، فاعتبر أن القرار كان من الممكن أن يكون إجراء شكلياً لكن الصراع السياسي داخل القوى الشيعية حوّله إلى ورقة استهداف للسوداني، معتبراً الموضوع "تعبيراً عن الفوضى وعدم الوضوح العراقي، ومحاولة البقاء في منطقة رمادية، بين معسكرين متناقضين هما الأميركي والإيراني".
وتظهر هذه التطورات أن لجنة تجميد الأصول، التي برزت كأحد مخرجات الضغوط الأمريكية، أصبحت ساحة معركة جديدة ضمن الصراع الداخلي بين التيار الحكومي الذي يحاول التوازن والتيار الموالي لإيران الذي يرفض الخضوع.
المصدر: الحدث/ وكالات
