متابعة الحدث
يحيي السوريون، اليوم، الذكرى السنوية الأولى لسقوط نظام بشار الأسد، فيما وُصف بأنه الأشد استبداداً وإجراماً في التاريخ الحديث لسوريا والمنطقة، بحيث يأمل السوريون ببدء مرحلة جديدة تحمل معها آمالاً ضخمة، ولكنها في ذات الوقت تحمل معها تحديات معقدة.
لحظة تأسيس لواقع جديد: فرحة التحرير وتركة الانهيار
شكل سقوط الأسد محطة مفصلية في التاريخ السوري الحديث، إذ مثّل لحظة تأسيس لواقع سياسي وأمني مختلف تماماً. ومع ذلك، خلّف انهيار النظام، الذي دمّر البلاد وهجّر الملايين وحوّلهم إلى لاجئين ونازحين داخليين، تركة ثقيلة فرضت نفسها على السلطة الجديدة، التي وجدت نفسها أمام اختبار معقد لإدارة انتقال تتشابك فيه التحديات الداخلية والخارجية.
على المستوى الشعبي، كان إعلان إسقاط الأسد حدثاً مزلزلاً، استقبله السوريون بفرحة غامرة، يحدوهم أمل لا حدود له في بناء وطنهم، بعد 14 عاماً من القتل والدمار والمعاناة.
حظيت الإدارة الجديدة بفرصة تاريخية لتحويل سورية إلى بلد مستقر ومزدهر، مدعومة بإرادة دولية وإقليمية وعربية نادرة، هدفها حفظ استقرار سورية ووحدتها. لكن هذا الدعم الخارجي واجهه سيل من التحديات، أبرزها: العدوان الإسرائيلي المتزايد الذي استهدف منظومات الدفاع ومعظم الأسلحة الاستراتيجية، وأعلن نهاية العمل باتفاق فض الاشتباك لعام 1974، وملف السويداء واستخدام ورقة "حماية الدروز" ذريعةً للتدخل وخلق الفوضى في الجنوب، والأحداث الدموية في الساحل والسويداء التي لا تزال تفرض تحديات على مشهد السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، بالإضافة إلى التحدي الأهم المتمثل في إعادة بناء مؤسسات الدولة وخاصة وزارة الدفاع من فصائل كانت متناحرة، إلى جانب وحدة الأراضي والأمن الداخلي والحفاظ على السلم الأهلي، وضرورة إقامة سلطة تشريعية تمثل السوريين ورسم سياسة خارجية تعيد سورية إلى موقعها الجيوسياسي الطبيعي.
تحولات سريعة في السياسة الخارجية: البحث عن موقع جديد
شهدت السياسة الخارجية السورية تحوّلات واسعة وسريعة بعد إسقاط الأسد، عكست سعي السلطة الجديدة لإعادة صياغة موقع سورية إقليمياً ودولياً. وتهدف هذه التحولات تهدف إلى تعريف سورية كـ"فاعل غير مهدد" يسعى لبناء شرعية خارجية مغايرة للحكم السلطوي. ويمكن القول إن الانفتاح السوري اتسم بطابع شمل تقريباً جميع الأطراف الإقليمية والدولية (باستثناء إيران)، بما في ذلك الدول التي كانت مصدر قلق للنظام السابق. ويُفهم هذا السلوك ضمن "سياسات إعادة الإدماج الدولي" للدول الخارجة من الصراعات، حيث تسعى الدولة الجديدة إلى تفكيك صورتها كـ"مصدر اضطراب" وتقديم نفسها كـ"شريك محتمل في الاستقرار الإقليمي".
وقد اعتمدت السياسة الخارجية على مرتكزات واضحة تشمل: التشديد المستمر على أن سورية لم تعد مصدر تهديد، وتبني سياسة "التوازن الإيجابي" مع المحيط، والالتزام الصريح بعدم تصدير الأزمات أو "الثورات"، والتركيز بدلاً من ذلك على دعم السلم الإقليمي، والانخراط التدريجي في شراكة مكافحة الإرهاب. هذه المقاربة مكنت سورية من تحقيق اختراقات دبلوماسية مهمة، أبرزها استعادة قنوات الاتصال والعلاقات السياسية مع الاتحاد الأوروبي، بريطانيا، وأميركا.
وهذا "الثلاثي الغربي" يُعد عنصراً مركزياً في إعادة إدماج سورية، وقد حسن موقعها التفاوضي. غير أن هذا التقدم ظل، في معظمه، ضمن الإطار الرمزي الدبلوماسي، ولم ينعكس بشكل حاسم على معالجة الملفات البنيوية العالقة.
ورغم التحول الظاهر، بقيت السياسة الخارجية محاطة بملفات معقدة، أبرزها ملف العلاقة مع إسرائيل، الذي ظل الأكثر اضطراباً. إذ شهدت سورية سلسلة أحداث أمنية لافتة، مثل استهداف وسط دمشق (وزارة الدفاع) في سابقة شكّلت لحظة فارقة. وهو ما يُقرأ كمحاولة من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى إعادة تعريف قواعد الاشتباك في ظل غياب اتفاق أمني مع السلطة الناشئة.
كما برز ملف السويداء كمثال على تحول القضايا الداخلية إلى ملفات ذات أبعاد دولية، نتيجة ضعف التقدير الحكومي الأولي واستغلال الثغرات من قبل فاعلين إقليميين ودوليين.
في المقابل، تبدو العلاقة مع تركيا هي الأكثر تقدماً وتماسكاً. إذ إن تركبا لا تنظر إلى سورية كدولة جارة فحسب، بل كـ"ركيزة أساسية في مشروع إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية". وتندرج هذه العلاقة ضمن تنسيق إقليمي غير معلن، ولا سيما مع السعودية، لإدارة الملف السوري بمنطق تكاملي يهدف إلى ضبط قواعد التنافس.
أما البعد الأهم في هذه العلاقة فيتمثل في إعادة تعريف قواعد الاشتباك مع الجانب الإسرائيلي، في ظل إدراك مشترك لمخاطر الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة. في حين أن العلاقة مع روسيا، تجري محاولات من قبل سوريا إلى إعادة تعريفها إدراكاً لحجم المصالح الروسية المتراكمة. وهو مسار ما يزال في طور المراجعة ويخضع لحسابات دقيقة تتعلق بتوازن النفوذ الدولي داخل سورية.
تحدي بناء الجيش الوطني: الهيكلة والاحترافية
وقد برز تحدٍ كبير أمام الإدارة الجديدة يتمثل في بناء مؤسسة عسكرية وجيش بعقيدة وطنية، بعد قرار حل الجيش والأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد، وهو قرار وصفه كثر بالـ"خاطئ" نظراً لعدم التعلم من درس العراق ما بعد 2003.
فبينما نججت وزارة الدفاع السورية من تحقيق تقدم ملموس في بناء نواة جيش وطني يعمل تحت سلطة الدولة، ونجحت في توحيد أغلب القوى المشاركة في معارك التحرير ضمن تشكيلات منظمة وإعادة تشكيل سلسلة قيادة منضبطة.، لكنها ما زالت تواجه تحديات بنيوية معقدة. وهو ما يستلزم ويتطلب تحويل القوى التي نشأت في ظروف الحرب إلى وحدات منضبطة تمتلك عقيدة عسكرية وطنية موحّدة، ومعالجة إرث الولاءات الفصائلية والمحلية.
كما يشكّل ملف المسرّحين من الجيش السابق أحد أكثر الملفات حساسية، لغياب إطار إدماج واضح لهم، مما يتطلب خطة وطنية لمنع تشكّل فراغات أمنية أو بيئات قابلة للاستقطاب. بالإضافة إلى ذلك، تستمر التحديات المرتبطة بـالعلاقة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وملف المقاتلين الأجانب، وهي قضايا يجب إدارتها ضمن مسار وطني يضمن وحدة القرار العسكري وحقوق جميع المكونات.
مشهد الأمن الانتقالي: إنجازات في التأسيس وشبكة تهديدات مركبة
تقف الحكومة السورية أمام مشهد أمني شديد التعقيد، يجمع بين إنجازات ملموسة في إعادة بناء مؤسسات الدفاع والأمن، وشبكة تهديدات مركبة، داخلية وخارجية، تتطلب مقاربة مختلفة للأمن الانتقالي. على مستوى الإنجازات المؤسسية، تمكنت سوريا خلال عام من إرساء ركائز أولية لـمنظومة أمن انتقالي متكاملة تضمنت إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية ضمن مقاربة إصلاح القطاع الأمني.
إلى جانب اتباع سياسة العفو العام عن المجنّدين غير المتورطين في الانتهاكات ما خفف الاحتقان وقلل من خطر تشكّل فراغات أمنية. كما أسهم الدمج الأولي مع "قسد" في خفض منسوب الاشتباك على خطوط التماس في الشمال الشرقي.
ونجحت مؤسسة الدفاع والأمن في تثبيت وجود الدولة في العاصمة ومراكز المحافظات الكبرى، وإنشاء وحدات متخصصة لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، وتنفيذ عمليات نوعية ضد خلايا تنظيم داعش.
وتشير هذه الخطوات إلى تحول تدريجي من منطق "إدارة الجبهات" إلى منطق "إدارة الأمن الوطني" على مستوى الإقليم السوري كاملاً.
لكن رصد التهديدات يشير إلى بنية مركبة لا يمكن التعامل معها كملفات منفصلة، بل تولّد بيئة أمنية ديناميكية، حيث يغذّي كل خلل داخلي حسابات القوى الإقليمية والدولية. ويمكن تلخيص أبرز العقبات التي تواجه منظومة الأمن الانتقالي في أربعة مستويات: أولاً، الهشاشة المؤسسية الداخلية، فمؤسسات الأمن والجيش لا تزال في طور التشكّل. ثانياً، ملف عناصر المنظومة السابقة، حيث إن الاكتفاء بالعفو والتسريح دون خطة واضحة لإعادة الإدماج يترك فراغاً قد يتحول إلى حزام قابل للاستقطاب من قوى داخلية أو خارجية. ثالثاً، الضغوط والتجاذبات الإقليمية، فالتوازن المعقّد بين أدوار إسرائيل وتركيا وإيران وروسيا وأميركا يجعل أي مشروع للأمن محاطاً بـ"حزام من التدخلات" رابعاً، العوامل الاقتصادية والإنسانية، فمحدودية الموارد واستمرار الأزمات وبطء رفع العقوبات يضعف قدرة الدولة على تقديم "أمن إنساني" حقيقي للمواطنين.
العدالة الانتقالية والتمثيل التشريعي: ملفات مؤجلة
ولعل التحدي الأهم للإدارة الجديدة كان يتمثل بانتخاب سلطة تشريعية تمثل السوريين وإرساء السلم الأهلي، الذي تعرّض لهزات عدة لأسباب تتعلق بعدم تطبيق العدالة الانتقالية وأخطاء حكومية في التعاطي مع الملف. إذ أن تأخير اكتمال نصاب مجلس الشعب لا يُعوّل عليه في إحداث فارق نوعي كبير في الحياة السياسية بسبب بنية السلطة، إلا أنه يمكن أن يشكل إضافة في الجانب التشريعي وتعديل القوانين. وفيما يخص ملف العدالة الانتقالية، فإن هيئة العدالة الانتقالية لم تتقدم خطوة إلى الأمام، فيما يبدو أن التوجه العام للسلطة "غير عابئ بشكل جدي" بهذا الموضوع، حيث لم تضع الهيئة أي وثيقة داخلية لكيفية عملها أو مسودة لقانون العدالة الانتقالية.
كما أن البنية القانونية الحالية غير كافية لمساءلة مرتكبي الجرائم والانتهاكات، بالإضافة إلى أن العدالة المرتقبة ذات انعكاس واحد (مرتكبو الجرائم من ضفة نظام الأسد)، ولا تشمل بقية الأطراف التي ارتكبت جرائم، ومن ضمنها مليشيات مما تسمى الجيش الوطني السوري.
خلاصة العام الأول: طريق الانتقال الشاق
وفي المجمل، كان العام الأول بلا الأسد عاماً للصعود من حطام الانهيار: نجاح في الهيكلة العسكرية، انفتاح دبلوماسي، وإنجاز أمني في توحيد مناطق السيطرة، في مواجهة تحديات جسيمة تتمثل في العدوان الإسرائيلي، هشاشة السلم الأهلي، وتأخر إرساء العدالة الانتقالية والتمثيل التشريعي. في حين يتمثل التحدي الأساسي في المرحلة المقبلة بتحويل الاعتراف الدولي إلى تسويات فعلية تعيد إنتاج الاستقرار السياسي والأمني لسورية، وتحويل الوعود بالوحدة والشراكة إلى واقع وطني شامل.
