غزة - محاسن أُصرف
على عتبات الأمل يقف ثُلةٌ من الفلسطينيين الذين خاضوا معترك الحياة وطاردهم الحصار وقتلهم الانقسام، بتغييب أبسط حقوقهم الإنسانية في العمل وكسب قوت يومهم؛ لا يعنيهم ساعات العمل الطويلة والشاقة، ولا تُثنيهم خطورته أيضاً.. أولئك يأملون أن يكتبوا بمداد كدهم وعرقهم ابتسامة على جباه صغارهم بتلبية احتياجاتهم البسيطة، تجدهم عند انبلاج الصباح يعزفون على أوتار الركام ليتسخرجوا منه حديداً، يستصلحونه بسواعدهم وآلاتٍ بدائية ليستقيم فيبيعونه بثمنٍ زهيد لأصحاب الورش وتُجار مواد البناء، يقول أولئك في أحاديث منفصلة لـ"الحدث": "نوفر قوت يومنا رغم الخطر المحدق بنا"، مؤكدين أن اثنين من رفاقهم في مهنة التنقيب عن الحديد واستصلاحه لإعادة استخدامه في البناء توفيا أثناء العمل نتيجة سقوط من علو.
"الحدث" وقفت مع أولئك العمال لتُبصر كيف تسير بهم الحياة في قطاعٍ أُحكم إغلاقه على أحلامهم وأنهاها إلى زوال!
أجر زهيد
قبل قرابة الشهر أنهى محمد الكفارنة (30عاماً)، عمله في تعديل حديد البناء المستخرج من ركام مبنى أبو خضرة الحكومي وسط مدينة غزة الذي قصفته طائرات الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوان 2014، أحد عشر ساعة منذ شروق الشمسِ حتى مغيبها، كان يقضيها الكفارنة أمام آلة بدائية يضع بين أقطابها سيخاً حديداً أعياه القصف ليُعيده مستقيماً قدر الإمكان يبيعه لمن هم بحاجة إلى إعادة ترميم بيوتهم، يقول لـ"الحدث": "هذه المهنة فرصة جيدة للحصول على رزق وإن كان زهيداً"، ويُتابع الشاب الذي تخرج من الجامعة قبل ثماني سنوات ولم يحظَّ بفرصة عمل طوال تلك السنوات، أن مهنته تنشط في أعقاب الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة حيث يتوافر الركام، يتقاضى الكفارنة 50 شيكل في اليوم، فيما يبيع مُشغله طن الحديد المُعدل بحوالي 500 شيكل، وأحياناً يتضاعف إلى 1000 شيكل وفقاً لحالة توافر الأسمنت في القطاع، يقول الكفارنة :"وفرة الأسمنت في الأسواق تجعل حركة الإقبال على الحديد المُعدل والمعاد اصلاحه، تشطة".
ورغم ضآلة الأجر الذي يتقاضاه الكفارنة، إلا أنه يُصر على العمل مُتحدياً ظروف العمل الشاقة ويُصر معه كذلك عشرات الشبان الفلسطينيين مؤكدين أن الحصار الذي تفرضه إسرائيل على القطاع منذ عام 2006 حتى الآن لم يترك لهم سبيلاً للعيش الكريم، وأضافوا أن منعها إدخال مواد البناء لغزة جعل عملهم رائجاً بعد الحرب الأخيرة والتي خلفت قرابة ثلاثة ملايين طن من الركام.
عمل مؤقت
ويرى أبو الحسن حلس، صاحب إحدى ورش البناء في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، أن العمل في تعديل واستصلاح أسياخ الحديد المستخرجة من المباني المدمرة عملاً مؤقتاً يلجأ إليه الشبان والعمال المتعطلين لتوفير بعض قوت أسرهم، ويستبعد حلس أن يستخدم الحديد المعاد تأهيله في بناء أساسات المنازل كونه تعرض لعوامل القصف والتدمير بفعل صواريخ الاحتلال، مؤكداً أن استخدامه يقتصر على بناء الأسقف فقط.
تنشط بعد الحروب
ويعمل لدى حلس في ورشته ستة عمال من مختلف مناطق القطاع، يقول :"بعضهم يقطع مسافات طويلة لأجل الحصول على راتب 50 شيكل يومياً ولفترة محدودة أحياناً تطول لأسبوع لا أكثر وفقاً لكمية الحديد المستخرج من الركام والمراد تعديله وإصلاحه من أجل بيعه لأصحاب المنازل المدمرة".
ولا يختلف عنه إياد السميري من بلدة القرارة بخان يونس جنوب قطاع غزة، يؤكد أن مهنة تدوير الحديد مهنة موسمية تنشط غالباً بعد الاعتداءات الإسرائيلية وتستمر عامين أو أكثر وفقاً لحالة الدمار وكمية الركام التي يُخلف القصف الإسرائيلي، لافتاً أن بدايات المهنة ترجع إلى عام 2009 في أعقاب عدوان الرصاص المصبوب على القطاع حيث كانت الفرصة مواتية خاصة بعد منع إدخال مواد البناء إلى القطاع، ويعمل السميري مع أشقائه الثلاثة في نبش الركام واستخراج الحديد والخردة وبيعه لأصحاب شركات البناء والمقاولين، مؤكداً أنه يبيع طن الحديد غير المعدل بـ 300 شيكل في حين يستغرق استخراجه من الركام قرابة الأسبوع، يقول: "المبلغ ضئيل جداً أمام احتياجات أبنائي الخمسة".
وحسب إحصائيات اتحاد نقابات العمال في قطاع غزة، فقد تجاوز عدد العمال المتعطلين بعد الحرب الأخيرة على غزة الـ30 ألف عامل نتيجة تدمير المنشآت الصناعية، فيما بلغ عدد العمال المتعطلين عن العمل بفعل الحصار المفروض على القطاع منذ 2006 قُرابة الـ170 ألف عامل قطاع كبير منهم من عمال البناء نظراً لسياسة إسرائيل في منع إدخال مواد البناء والعديد من المواد الخام الخاصة بالمصانع للقطاع.
استثمار للمقاولين
فيما يبدو الحديد المُعدّل، وجهة استثمار للمقاولين في قطاع غزة، يعمدون إلى شرائه من النابشين في الركام بأثمان زهيدة ومن ثمَّ يطرحونه في الأسواق بأسعار تُحقق لهم ربحاً وفيراً وفي ذات الوقت تكون أقل من أسعار الحديد الجديد الذي يأتي من خلال معبر كرم أبو سالم، يقول أحد المقاولين بمدينة خان يونس –رفض ذكر اسمه- أنه يشترى الحديد غير المُعدل من النباشين الذين يستخرجونه بآلات بسيطة من الأبنية والعمارات المدمرة ومن ثم يبيعونه بأسعار مُربحة، تصل إلى ثلثي ثمن طن الحديد الجديد.
الأقل سعراً
وفي ظل المنع الإسرائيلي دخول مواد البناء إلى القطاع يجد تُجار مواد البناء الفرصة مواتيه لتحقيق إنعاش لورشهم وأعمالهم المُعطلة، يقول على أبو زويد: "أنه يشترى طن الحديد المعاد إصلاحه وتعديله بقرابة 1000 شيكل ومن ثم يبيعه بثمن أعلى قليلاً للزبون" مؤكداً أن الإقبال جيد بسبب انخفاض سعره ولكن يزداد الطلب في حال دخول الأسمنت إلى القطاع.
ويبلغ ثمن طن حديد البناء الجديد حوالي 3000 شيكل، وغالباً غير موجود لدى ورش ومحال مواد البناء في القطاع، بينما يتراوح ثمن الحديد المُعاد تأهليه وتعديله بعد استخراجه من أكوام الركام بين (1000-1500 شيكل) وهو ما يُفسر الإقبال عليه، ويُشير أن الأشخاص الراغبين في البناء يعمدون إلى استخدام الحديد المُعدل في تنفيذ الأسطح فقط بينما الأساسات والأعمدة لا يتم بناؤها إلا بحديد جديد.
استخدامات محدودة
وفي هذا السياق أكد عماد الباز، وكيل مساعد وزارة الاقتصاد الوطني، أكد أن وزارته تُراقب بالتعاون مع وزارة الأشغال آليات العمل في الحديد المُعاد إصلاحه وتأهيله، وقال: "لا يُسمح بناء أكثر من طابقين به ولا يُسمح باستخدامه إلا بالأسطح فقط والإنشاءات البسيطة"، مؤكداً أن الاحتلال الإسرائيلي هو من فرض على المواطنين العمل في مهنة تدوير الحديد وإعادة استخدامه في البناء نظراً لشحه في الأسواق وارتفاع ثمنه حيث يتراوح سعر طن الحديد الجديد بين (3000-4000) شيكل، وأضاف أن ذلك العمل يُمثل مصدر رزق لآلاف العمال المتعطلين خاصة مع استمرار وتيرة الارتفاع بمعدلات البطالة وتقلص فرص العمل، داعياً إلى ضرورة توعية العمال بخطورة العمل في بنش الركام واستخراج الحديد وتعديله، كما طالب أصحاب الورش بتوفير إجراءات السلامة لهم، وشدد على مسؤولية الحكومة فيما آلت إليه أوضاع المواطنين في غزة وضرورة أن تقف عند مسؤولياتها في توفير الحياة الآمنة والكريمة للمواطن.