السبت  18 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

امرأة اسمها العاصمة

2015-08-11 10:37:40 PM
امرأة اسمها العاصمة
صورة ارشيفية

لـ إياد شماسنة

(14)
 
تمت مؤامرتك كما دبرت تماما، وجاء التنفيذ، بيديك أيضا، لما قرره أهلك من حكم مطلق، بناء على مشيئة الشارة الزرقاء، وتفوق الرغبات.
عندما اتصلت هذا الصباح، في اليوم الخامس لقيام الساموراي على الرمح، وأخبرتني أنك ستأتين إلينا في رام الله للمباركة، ارتعشت، أحسست بالعرق يسري باردا في ظهري كما لم أشعر به من قبل.
أعذريني، إن تركت الهاتف لراوية، لكي ترتب شعائر استقبالك، وتنشئ أناشيد نداء قوافلك، فهي صديقتك، وأنتما الأولى بإدارة شؤون الحوار من شاب غريب، وخصوصا بين عروس وصديقتها. سأحاول بآخر ما تبقى لدي من شهامة العاشقين ألاّ أفسد صداقتكما، إلا بالقدر الذي أحافظ فيه على حرفية تطبيق السيناريو المدهش، الذي قمت برسمه لاغتيال الاستثناء، الذي كان في كون علاقتنا.
الهدية: "هدية العرس" التي أحضرتها، أليست هي ذاتها التي طلبت من راوية أن تجعلها هدية زفافك، يوم كنا في حفلة عيد ميلاد في حيفا قبل عامين؟
لماذا أحضرتها الآن لنا؟
هذا ليس زفافك سيدتي، إنه زفاف غزالة القلب المضرج بالحب.
أنت عرّابة الأمر كله. لكن الأمر بلغ حدا من الكمال لا يمكن أن يكون معه صحيحا، ولا يحتمل المزيد إلا الخروج من الجنة، كما خرج آدم عليه السلام من الخلود، وهو يبحث عن المزيد من الاكتمال بالخلود.
توقفي، أرجوك!
أنا لا أعرفك بكل هذه السادية أبدا. كنت قديما قبل شعائر التعب هذه، أصّلي ألا أرى دمعة في عينيك. والآن، أنا أبتهل لكي تبلل دمعة واحدة جفنك، فأنا لا زلت أخاف على عينيك الخضراوين من حرارة القلب، ومن انتفاضة الطير الذبيح في ساحة الألم.
ثم يا سيدة فاجعتي، لماذا الإصرار على ذلك الفستان، البارع الأناقة؟
أليس هو ذاته الذي أوصيت به من باريس مع صديقتك الفرنسية "صوفي" عندما أتت لتقضي صيفا بين حيفا ويافا، من جامع حسن بيك إلى حدائق البهائيين، إلى أعلى جبل الكرمل، هذه أيام فراقنا الأولى، فلماذا تصرين على أن تكوني في كامل أناقة الانكسار؟
ولماذا تصرين على التجمل أكثر؟
أراهن أني لو ألقيت قصيدة الآن، من تلك القصائد الممهورة بأحمر الشفاء خاصتك، لاستعجلت الأرض دورتها الأخيرة، ثم يفيض الشغف إلى عناق الجبال.
* * *
أمضيت أمدا طويلا، وأنا أحاول كتابة قصيدة جديدة، ولم أستطع، فمنذ الهزيمة التي منِيتْ بي، وأنا، للمرة الأولى في حياتي، لا أتقن المناورة، وأنت تعلنين الأحكام العرفية على تجربتنا.
كنت أحاول ابتكار معان تليق بالمرحلة: مرحلة الانشقاق، الانشطار العاطفي، الانقلاب على الذات. أحاول الكتابة عني وعنك، فأجد عطر راوية يتربص بي من خلف الباب الموصد لمكتبي. صورتها على الحائط بشلال الشعر الأسود، تعاتبني على محاولة الخيانة التي أنوي ارتكابها مع من أحب، ولم أزل أحب.
أنقلب على نفسي، وأحاول الكتابة عن ذاتي، فلا أستطيع التباكي على ماض، سلمت فيه أمري إليك، بعد أن علقت شباكي على شاطئ بحر هادر، فلجأت منك، ومن الشاطئ إلى راوية، التي أنشأت ما بيني وبينها مجالا حيويا تسرح فيه الروح، ويرقص فيه القلب. أنا الذي اقترب منها، وكل ظني أن المدن المعشوقة قد تصلح مدنا بديلة للعواصم الأصلية، لكنها خلعتني من القدس بعدما ظننت أني بك سوف أسكنها إلى الأبد، ورغم كل ذلك، لا تزال القدس تسكنني، لكن بلهفة المحروم، بعدما كانت بلهفة المتأمل، في وقت مضى.
أحاول الكتابة عن راوية المغربي، فتخرجين بفستان من الموسلين الأسود، الذي تأملناه سويا في شارع الزهراء ذات يوم، ونحن ذاهبون إلى "coffee Europe". تأتين، فتجلسين على أول سطر كفراشة زرقاء أو بيضاء، وأجمل الفراش الملون. وتمسحين حبر الكلمات، وتتمشين بعد كل حرف يكتبه قلمي، فتصبح الصفحة زرقاء أو تعود بيضاء، وأنا لم أنجز شيئا، فأعقد مؤامرة معك، وأعود لأرسم صورتك، ثم أذبح قلبي، وأنا أمزق الرسم على عجل، تحسبا من أن تأتي راوية وترى ما ارتكبت يداي، فتقلب البيت جحيما، ولا جحيم مثل ربات الغيرة من النساء المفجوعات بالحب.
* * *
أنجزت "أحلام مستغانمي" الجزء الثالث من ثلاثيتها (ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، وعابر سرير)، وقالت إنها انتقمت على ورقها من كل من أرادت أن تجهز عليه.
خبريني إذن، كيف أشفي غليلي من عاصمة مثلك؟
مدينة جعلتني متورطا بها حتى العشق، ثم غابت في سفر، ووطني ذبيح من جديد للمرة الألف. وحرمت منها، فلجأت إلى غيرها من المدن، كما لجأ أهلي من قبل من أرض إلى أرض، ومن مدينة إلى أخرى، تعوضني عن أقل القليل مما ضاع، حتى تحين ساعة موتي فيك أو غفوتي على صدرك، ثم عدت وبيني وبينك قد نما في المساحات الكثير من الشوك والغرقد، وأقيمت حواجز، وسواتر ترابية، وإسمنتية، وتراكمت تقاليد جديدة، وشارات زرقاء وخضراء ابتكرتها الغربة، فدخلت في خبزنا وملحنا وهوائنا الذي يغسل رئتينا.
خفت أن أظل بلا مدينة أو أن أعيش على هامش المدن، واعتبرت بمصير "صابر حمدان" الذي لا يعيش أسبوعا بدون إمرأة، فجعلتني لاجئا إلى مدينة، تشبهك أو تكاد، فصرت أحاول تقسيم نفسي بينكما، هي تعاتبني على حديث مطول على الهاتف، على كلمة توقد غيرة امرأة مرت في بيت من القصيد، أو على بيت من الغزل، يلقيه شاعر لامرأة على سبيل المجاملة، فتشتعل هي، وأنت يقتلني ثلجك الذي يخفي ما يخفي. هذا العالم الجليدي المظهر، المسكون ببركان على قيد الثورة.
* * *
عندما ثار "فيزوف" غطى رماده مدينتي "بومبيي" و"هيركلانيوم" معا لمدة ألفي عام، ترى ماذا سيفعل بنا بركان ملكة الجليد؟
يا الله كم بت أخشى تلك العواقب، عواقب صمت مدينة تترك على أرصفة الانتظار، وعاشقها في مدينة بديلة، يرسمها ويتغزل بأمجادها، ومفاتنها.
عندما أطيل الحديث إليك في زياراتك، أو لقاءاتك بنا في رام الله، أخشى أن أظلم راوية، أو أنحاز إليك عن غير قصد، كما اعتاد الحديث أن يفعل كل لقاء، فأحاول الالتفات إليها مفتعلا اهتماما عاطفيا، وعندما أنسى نفسي مع زوجة، لا تزال تعتبر نفسها عروسا، رغم الشهر السادس على الزواج، ألوم نفسي على الانشغال عنك، بكثير منها.
عندما كان أبي يحدثنا عما سمع من عذابات اللاجئين ومنهم الأغنياء والبؤساء، كنت لا أزال لا أفهم تماما ذلك الانتماء الجارف للتراب والماء والحكايات.
الآن، أستطيع أن أفهم المقتل الكامن في الازدواجية، ومعنى أن تكون في دولة تحمل جنسيتها، ومجبر على التغني بنشيدها الوطني، وأنت في داخلك ينبض عرق بنشيدك الوطني الأول، لك علمك ونشيدك الذي يعتبر خارجا عن القانون، لو رفعتهما قرب علم مضيفك، بتهمة ازدواجية الولاء.
وعندما تقف على مرتفع في الكرمل، وتطلب قبلة من شجرة، وتنشد مع أحراشه الممتدة نشيد الحياة، وتطلق أوبريت العودة، يلقون بك أيضا في غياهب السجن بضع سنين، وبذلك يكون العذاب، في ازدواجية تقتل على الحدين.
لماذا أطعتك، وتزوجت راوية، وأنا أحبك؟
سؤال لم أكن غافلا عن إجابته. كنت في محراب الخسران، وربما آثرت النجاة بها على أن لا أفوز بأي شيء، وأنا اللاجئ، الذي تعلم أن يأخذ معه ما استطاع بعد نكبة ونكسه. ولأن العودة قد تتأخر كثيرا، تعلمت بتجربة الألم، وفي طريقي إلى حريتي، أن أعمل على شيء آت، وشيء بعيد سيأتي، لكني تعسفت، كنت ذاهلا، وأنا أرى حيفا تضيع من جديد.
لقد عاد غسان كنفاني إلى حيفا، من جديد يبحث عن أصل الهوية، ويعلن ما تبقى لنا. ربما الآن بعد أعوام طويلة مضت على قراءة تلك الرواية العظيمة "المتبقي"، أستطيع أن أشعر بشعور كائناتها.
عندما أفكر كيف أن الفلسطيني يمضي حتى الآن ستين عاما وهو بين إحداثيات المخيم والأرض والمنفى، وعين بين الشتات، وعين أخرى على الحرم، أستطيع أن أفسر لنفسي لماذا تزوجت راوية؟
ولماذا أطعتك يا حيفا هذه المرة، وأنت جرحي القاتل؟
راوية كانت الواحة التي وجدها القلب في صحراء الزمان، وهو غائب عن مدينته، وهو المحكوم بالفقدان، في عام الحضور الطاغي للحزن، والحدود والحواجز المستحيلة.
شكوت بعضا من همي إلى "محمد السلمان"، أقرب الأصدقاء، بعد عودتنا من لقائنا الأسبوعي، قال لي إني مخطئ بحق نفسي لأني أركض خلف محال، قد يتأخر تحقيقه سنوات طويلة.
كنت أنت المحال بالنسبة لرؤيته الموغلة في الواقعية، أما بالنسبة لواقعيتي السحرية، فكنت محالا سيتحقق يوما، كحلم العودة إلى أم الزينات، وفي نفس الوقت سيتأخر.
محمد السلمان كان يعرف أخاك داني الأنصاري، المهاجر إلى السويد، ويعرف طبيعة أمك وتفكيرها المتزمت بخصوص تقاليد العائلة، ذات الدم الأنقى. أخبرني أن اللجوء إلى مدينة أخرى أفضل من الموت على رصيف الانتظار، الذي يزداد وعورة كل يوم.
* * *
في الزيارة القادمة التي سنقترفها قريبا، كوني أقل التزاما بمبادئ "ستانسلافاسكي" في تمثيل مسرحية اللقاء، تصرفي بلا جليد. سلمي على راوية كما كنت تسلمين عليها من قبل الثلج، وسلمي علي خلاف ما كنت تسلمين. تظاهري أنك لا تهتمين بنظراتها التي تستفسر عن إعجاب لك بي كانت تعرفه ذات يوم، وغاب خبره مع سنوات السفر والحرب.
عندما تشكوني إليك، وتخبرك أني أطيل الحديث على الهاتف، وأنشغل عنها، وأنا أستوطن شرفة المنزل، قومي بتأنيبي قليلا أمامها، وذكريني بمدى مديحي لها أمامك في غيابها، لكي تبتعد بالظنون بعيدا.
عندما تخبرك راوية بأني كثير الشرود عنها، وعن حديثها إلي، كثير الانزواء في مكتبي خلف جهاز الحاسوب، أخبريها أن الفنانين والشعراء يفعلون هذا كثيرا. وأرشديني بحزم إلى ضرورة الاهتمام براوية، وخصوصا أنك السبب في توطيد هذه العلاقة، وأنك عرابتنا.
عندما تشكو من الحديث مع معجبات، يتصلن على الهاتف، ويرفضن التحدث عندما ترد هي، أخبريها أن عليها أن تعتاد هذا الأمر، لأن العلاقة مع الشاعر هي أكبر من مجرد علاقة مع صوته. فلتدع الصوت للجمهور ولتبق قريبة من الروح، ولا تحاول أن تستحوذ عليه أو أن تحتكر صوته، فتموت روحه في قفصها، ويضيع صوته في ضجيج الوقت، وإياك أن تعرف أن تلك المكالمات منك، أنت بالدرجة الأولى.
ولكن هل ستخبريني بم سوف تجيبين، عندما تفاجئك بسؤال، كما فاجأتني صباح اليوم، وقالت بصيغة الذي عثر على سر الكنز المفقود؟ لماذا لم أرتبط بك أنت؟ ولماذا فضلتها عليك، أنت من كنت أكثر إعجابا بك، وكنت معي أكثر تناغما؟؟
هل ستتمكنين من الكذب مرة أخرى؟
هل ستقولين إنك لا تستطيعين أن تقومي بمعزوفة متكاملة، بشراكة رجل لا يزال معلقا بين الأيام، يعزف للماضي والحاضر معا، وأنت ابنة حيفا، وخريجة إسبانيا، وراقصة التانغو المبدعة؟
هل ستقولين إن ذلك كان طعم اللحظة الأولى، وتأثير الدهشة الأولى، التي ليس غريبا أن تزول، وأن راوية كانت الأكثر توازنا، لذا بقيت حتى النهاية؟
طيب، وماذا ستخبرين بقية الأصدقاء؟
بماذا ستجيبين الدكتورة دعاء، عندما تزورينها مباركة عيادتها الجديدة في "شارع الزهراء"، وهي تسألك عما جرى؟
وكيف افترقنا، وقد كنت نجمة سمائي الأجمل يوم حفل تخرجها؟؟؟
هل ستجيبينها بكل أناقة الكذب أن تلك كانت صداقة فقط، وأنك تتمنين لراوية الحياة الهانئة؟
وعندما يستفسر محمد السلمان، أو يفاجئك رفيق الخطيب في حافلة ما، ويسألان عن سبب تعنت أهلك، ورفضهم القاطع لارتباطنا، هل ستقولين الحقيقة، كاملة؟
أم أنك ستجيبين الجواب الأزلي: كل شيء قسمة ونصيب.
أرجوك أيتها العزيزة الغالية، تريّثي قليلا في إطلاق ثورتك القادمة التي أشعر بخيراتها وبشائرها، وهدّأي من تحولاتك.
أعذري الغيرة التي بدأت راوية تمارسها تجاه حضورك، ومظاهر المبالغة في التودد إلي أمامك، ومراسيم الدلال التي ترتكبها، فتلك طريقة الأنثى الغريزية في الاستحواذ.
حاولي أن لا تنظري إلى عيني، وأنت تصافحيني، لكي لا أكون مضطرا إلى الهروب في كل لحظة تطاردين فيها عيني، أو ألاحق فيها ابتسامة ثغرك الكرزي اللون.
أعلم أنك تريدين أن نلتقي كما اعتدنا من قبل، أيام كنا وحدنا لا ثالث بيننا، لكني الآن بدأت أستنفذ الأعذار، للهروب من شكوك، بدأت تنبت لدى راوية، وهي تتوجس من نزواتي، وطقوسي الغريبة عن توازنها اليومي ومعزوفتها الحياتية.
بدأت أظن أن راوية ستلقي القبض علينا في عشق مفعم بالخيانة. وإلا ما معنى أن تسوغي أنت أخطائي التي لا تستطيع تفسيرها، وأن تؤنبيني على أشياء شكتها إليك، ثم تجد رقم هاتفك محفوظا لدي باسم مستعار "روح الكرمل" مرتبطا بأغنيةI Dreamed a dream" "، الأغنية العالمية، المستعارة من رواية البؤساء للساحر العظيم فيكتور هيجو.
 
( 15)
 
حدثتني مجموعة عصافير عما جرى في الليلة الأخيرة للعهد الجديد من الإيقاع المكثف للوجع. كنا نحن الثلاثة سويا في رام الله حتى العاشرة مساءً. راوية لا تزال سكرى بما سقيناها من لذة الوهم، وعسل الكذب. كانت بيننا مثل طفل بين أبويه، مرحة ضاحكة، تمنح المكان عذوبة وابتهاجا، وتلقي برأسها إلى كتفي، في سكرة فرح، وهي تتأبط ذراعي كسلم موسيقي.
بريق عينيك بدا لي متعبا. كان تلك الليلة ضبابيا تقريبا، وصوتك لم يرق لي. بدا متوترا، أكثر من ذي قبل، عرضنا أن نأخذك إلى طبيب، فقلت أن الأمر مجرد عوارض بسيطة قد تكون مقدمة لأنفلونزا مقبلة، عافاك الله منها.
أنا أقسم، برب عينيك، أنك تكذبين. حدسي يقول ذلك. أرواحي السبعة تشعر بذلك، أنت لم تعودي تجيدين التمثيل. الدور المتقن أصبح مرهقا، وطعم الخطيئة أصبح منهكا جدا لجسدك المتعب. كما أنك قد استنفذت رصيد الصبر، وبقاؤك قريبا من مسرحنا الآثم سرق منك المتبقي من الجليد.
لقد ذاب ثلجك يا ملكة الجليد. وتهدمت أعمدتك واحدا تلو الآخر، وسقط التاج البلوري البارد من على رأسك وصار ماء، ولم يبق من انفعالاتك الكامنة إلا ما نخاف منه جميعا، وما صليت لليال ألا يحدث.
استأذنت راوية أن أوصلك إلى السيارة. كان الصمت رفيقنا من "الرووف" إلى الشارع، فقط، سمعتك تهمسين، قائلة: الحمد لله أنك استأذنتها كي لا تغار!
ولم أعرف ما أقول، وأنا أشعر بأنفاسك حارة، وفرقعة من أصابعك تصل مسمعي كطلقات من الرصاص. فتحت لك باب السيارة، ودخلتها بكامل احتراقك، وأنت تتساءلين، بعدما ألقيت شالك الوردي جانبا: لم يبق إلا أن تعانقك هذه الحمقاء، ألا تحترم وجودي على الأقل؟
: أعذريها، كانت منفعلة ومسرورة، كما أنها لا تعرف أنك.. .. .. .. .. !
كنت مضطربة المزاج كليلة في سيبيريا: لا تعرف أنك لي أنا، أتفهم؟ أنت لي أنا. هي يجب أن تتلقى دروسا في احترام مشاعر الآخرين.
:دنيا، نحن في الشارع، ماذا ألم بك، ما الذي تقولين؟
: لا شيء أيها العريس، اغفر لي. فقط دنيا تهذي، ربما ذلك بسبب الحمى. ألم أقل لك أنها مقدمات الأنفلونزا، عليك أن تستوعب الأمر بروح طيبة، فالنساء مزاجهن سيئ مع الحمى، وخصوصا بنات الكرمل.
أغلقت باب السيارة، وأنا أطالبك بالتمهل، كنت تضغطين دواسة الوقود وتنطلقين مسرعة، وأنا يعتريني الذهول.
ثم غبت في آخر الشارع، ولم أدر إلى أين ستذهبين؟
* * *
عدت إلى "الرووف" وطمأنت راوية، وكذبت أنا أيضا، للمرة المئة.
قلت إن دنيا متوعكة، قلت أيضا إن لها مشكلة مع أخيها، الذي يريد نقلها، والوالدة، معه إلى الخارج بعد حصوله على جنسية دولة السويد. وأمضيت بعض الوقت بجانب راوية ساهما، وأنا أفكر بك. كنت تحتلين ما تبقى لي من أعصاب، كنت أحسب أن رصيدي منها كبير، لذلك عرضت على راوية أن نمضي بقية السهرة في البيت، ولفرط توتري وانشغالي بدنيا وتحولات دنيا المفاجأة، جعلت السيدة راوية تقود السيارة.
حدثتني عصافير ذلك المساء كم بكيت، وكيف سال الكحل على خديك. كان بكاء صامتا إلا من انحدار السائل الساخن على وجنتيك، وكانت سرعة السيارة فوق المعتاد، وصوت خالد الشيخ الذي تحبين أغنيته، يصدح، بصوت عال:
 
عيناك، وتبغي وكحولي
 
والكأس العاشر أعماني
 
وأنا في المقعد محترق
 
نيراني تأكل نيراني
 
أأقول أحبك يا قمري
 
آه لو كان بإمكاني
 
توقفت في الطريق قليلا. لقد كانت طريقك تأخذك إلى القدس، حاولت الاتصال بك كثيرا، ولم تجيبي أبدا. كان مقود السيارة المتوقفة على جانب الطريق، لالتقاط الأنفاس، هو الحضن الأقرب إليك.
بعد منتصف الليل، كانت راوية تغفو في الفراش. وكنت مستمرا في الكذب. أكملت تمثيل دور الزوج النائم إلى زوجته. وفي نفس الوقت كنت أعبث بهاتفي النقال، وأستطلع بعض الأمور. رن جرس الهاتف، فضغطت زر الاستجابة فورا، بعدما عرفت المتصل، قمت متسللا إلى الشرفة، كنت أنت بعد أربع ساعات من غيابك.
أخبرتني أنك في شقتي في القدس. لقد ذهبت إلى المدينة العاصمة التي جمعتنا دوما لتشكوني إليها، لكي تمارسي قليلا من طقوس الحزن الذي يعتريك، سألتك: ماذا تفعلين في القدس؟
: أحاول الرقص مع ظلك.
: مع ظلي؟ الآن، في هذا الوقت من الليل؟!
كان صوتك مرتفعا مختلطا بالموسيقى، فقلت: أشم قميصك، وأرقص معه، هل ستقول عني مجنونة، قل ما تشاء، لن أهتم، فأنا مجنونة فعلا.
: إفعلي ما يخفف عنك وعني، بجنون أو دون جنون.
: لم يتبق يا شاعري، لامرأة مثلي، في هذه المدينة، إلا أن ترقص مع الظلال.
: الرقص مع الظلال، رقص مع الوهم، أنا أخشى عليك من الظلال!
ضحكت ثم قلت: لا بأس، فهي ظلال شاعر. وعلى كل حال، هو ظل حبيبي الضائع. أعذرني إن اقتحمت خصوصياتك، لكني لم أستطع العودة إلى البيت في منتصف الليل، فلم أجد من تاريخي في المدينة إلا شقتك، ولم أقتنع بما يذهب هذا الصداع من رأسي إلا عطرك في المكان.
كنت أحاول أن أخفض صوتي، كي لا تفيق راوية، فأجبتك: لا بأس عليك. المكان لك. والعطر لك، والروح لك. فقط، أخفضي صوت الموسيقى، فالجيران في منتصف الليل يهمهم النوم أكثر من موسيقى "عمار الشريعي" أو "أغنية الليل وآخره".
قلت متمردة: لا تخش شيئا، لن أسبب لك أية فضيحة، قليل من الإزعاج فقط، يمكنك أن تبرره للجيران بعد عودتك.
: لقد حاولت الاتصال بكِ مرارا، كنت قلقا جدا، وأنت تعرفين أنه لم يكن بإمكاني المغادرة معك، ثم أرجوك أن تخفضي الصوت قليلا.
: لن أخفض الصوت، إلا إذا جئت الليلة لتملأ فراغ هذا الليل مكان الموسيقى.
: أنا أستحق كل شيء، لقد صنعت بك وبي ما لم أتخيل، وتركتك في فراغ كوني لا أستطيع إلا أن أكون مهزوما أمامه.
: بربك يا أحمد، تعال هذه المرة فقط، من أجل رب السماوات.
يا لله كم كان صوتك يذبحني، وأنا الذي لا يرد لك أمرا، سمعت أنين روحك، فقلت: أنت مجنونة. أنت تعلمين أني لا أرد لك طلبا، لكن المجئ إلى القدس الآن مستحيل. أنا لا أملك تصريحا للدخول، ولا أدخل إليها إلا تهريبا عبر الطرق الالتفافية وعبر الجبال، وأحتاج ساعات للترتيب، ومثلها للوصول.
صمتُّ لبرهة. بل أطلتُ الصمت كثيرا، وأنا أتمنى أن تتحدثي، أن تقولي شيئا، أن تنطقي أو تصرخي. المهم أن لا تذهبي في نهر بكاء.
أنت تعلمين أني عرفت مجاهل الأرض لكي ألتقي بك، وأني كنت أفضل أن أبقى وحيدا على أن أكون لغيرك، لكن الممثل لا يمكنه الاعتراض على السيناريو في منتصف الفيلم. وما دمنا قد ارتكبنا هذا الأمر سويا، فعلينا أن نؤديه بإتقان الممثلين المحترفين.
: دنيا، يا غزالة الروح الشاردة، أنا آسف، لا أحب إلا أنت أكثر من أي شيء، لا أحب أيضا أن أخذلك، لكنك الآن بحاجة للراحة، ابقِ الليلة في الشقة، وسأعمل على أن أراك غدا ظهرا.
: لا تقلق يا عزيزي، لست بحاجة إلى شيء، فقط سأرقص "الفلامنجو" التي تعجبك مع نفسي، حتى أنام، أو أموت، ثم سأحزم أمتعتي، وأرجع إلى إسبانيا، أندلسنا المفقودة، التي لن تعود حتى نعود، هي وحدها تستطيع أن تطلق روحي من قمقمها.
: دنيا، بربك لا تفعليها مرة أخرى؟
: بل سأفعل. بالسفر وحده يمكن أن أتداوى منك، وأحل المعضلة.
صحت، مناديا، راجيا: لا تسافري يا مجنونة.
تنهدت، وقلت: سأريحك من جنوني، وسأريح الحمقاء، التي لديك من وجود إمرأة أخرى، تتسبب لها بالغيرة، وتشعرها بضرورة الاستعراض الأنثوي في حضور أنثى غيرها.
: نريدك بيننا، لا تريحينا إلا مما يؤلمنا، وأنت بلسمنا.
: لستُ بحاجة إلى خنجر يتحرك في قلبي، ليذكرني في كل مشهد عاطفي كم خسرتُكَ. بلنسية وحدها تفهمني، وتستطيع تضميدي وإطلاق جنوني.
: سأحاول أن أساعدك لنتجاوز هذه المرحلة.
: الدكتوراه يمكنها أن تمتص طاقة انفعالي، ومزاجي الكارثي.
* * *
وسافرت مرة أخرى إلى إسبانيا.
حدثت مشكلة أخرى مع أخيك العائد من سفره المبتهج بجنسيته. أقنعت أمك وسافرت، أقنعها أن الجامعة أرسلت إليك الموافقة على منحة الدكتوراه.
سافرت وتركتني هنا وحدي.
أتتني مكالمة هاتفك من مطار الملكة علياء، تخبرني أنك بعد دقائق ستركبين الطائرة، وتغادرين، وأنا أقرأ "جلجامش"، وكنت قد وقفت عند النص الذي يقول فيه "جلجامش":
طوال الليلة الماضية كنت ذاهبا آتيا على هيبتي، فسقطت أمامي كتلة من السماء أردت أن أرفعها، لكنها كانت أثقل من طاقتي. عندها أعلنت أم جلجامش: "يتعلق الأمر برجل يشبهك، ستلاقيه وتبتهج به".
وهذا ما حدث فقد التقى جلجامش بأنكيدو.
* * *
هل هذه نبوءة لما سيأتي؟
هل سترجعين قريبا؟
هل ستعودين من إسبانيا؟ متى ستكف إسبانيا عن كونها غريمتي فيك كما هي غريمتي في الأندلس؟
متى سألتقي بك في حديقة الجرس، مرة أخرى وأسألك، وأنا أعرف الجواب السرمدي.
متى عدت من إسبانيا، يا سيدتي، وسيدة إسبانيا؟
وانأ أتلو عليك ما كتبت من تسعة وخمسين ألف كلمة ونيف، تختصر حكايتنا معا، ونحن نجلس سوية فيما بعد، والراوي، يتنازل عن دوره في الرواية ويغادر، لتبقى روايتنا بأيدينا، نكمل ما نشاء من فصولها.
وكأني أتذكر قولي مرة أخرى: "لا يعالج الجروح الكبيرة إلا الإيمان الكبير بالشفاء".
وأنا لا زلت مؤمنا أنه سوف يأتي شفاء على يديك يوما ما، سوف أشفى من هزيمتي الكبرى. وأنا أعلم أنه لا تكون الهزائم مرفوعة الرأس، إلا عندما تكون تضحية برهن المحبة، يا هزيمتي الكبرى يا روحي أنا.