الأربعاء  14 أيار 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

فورين أفيرز: ماذا يفعل التعذيب بالدماغ؟

2016-01-21 07:07:47 AM
فورين أفيرز: ماذا يفعل التعذيب بالدماغ؟
زائر يجرب قناعاً معدنياً كان يستخدم كأداة للتعذيب في نظام الراحل صدام حسين، والمعروض بمتحف الشهداء في بغداد – (رويترز)

 

الحدث-  فورين أفيرز

شين أو-مارا |  ترجمة: علاء الدين أبو زينة

 

أثبت التعذيب، كتكنيك للاستجواب، كونه فشلاً كاملاً ومطلقاً. وربما يبدو بدهياً أن إيقاع أقصى درجات الألم والعذاب والضغط على الأسرى، قبل وخلال الاستجواب، يمكن أن يُعزز رغبتهم في الكشف عن المعلومات. ولكن، عند التأمل في المجموعة الكاملة من آثار التعذيب، فإن من الواضح أن الممارسة بعيدة كل البعد عن الحكمة أو المنطق. وحتى بعد وضع الحجج الأخلاقية والمعنوية والقانونية جانباً، فإن التعذيب يؤثر بقدر هائل وبطريقة سلبية على المعذَّبين، وبشكل أقل وضوحاً، على الذي يمارس التعذيب نفسه. وفي معظم الحالات، يقوّض التعذيب أنظمة الدماغ والدوائر الكهربية التي تدعم عمليات المعرفة والشك.


ثمة أدلة علمية دامغة على أن التعذيب يلحق الأذى بالدماغ، حيث يهاجم حتى نسيج العقل نفسه. وينسجم هذا مع الأدلة الأخلاقية والقانونية التي تبين كيف أن هذه الممارسة تضحي بالكثير، في حين لا تحقق سوى القليل. وحتى يمكن جعل الناس يتكلمون، كما يقول العلم، فإنه ينبغي الاستماع إليهم بنشاط. ويصنع عرض الاحترام والود والدفء مفاتيح مهامة للحصول على المعلومات من أسير، أكثر مما يفعل التخويف والعنف.


العِلم الكامن وراء التعذيب


لفهم السبب في فشل التعذيب، من المهم معرفة مدى طول عمل الذاكرة. إنها فئة الذاكرة المسؤولة عن تخزين واستدعاء الحقائق السابقة المختبرة ذاتياً والأحداث التي تستطيع أن تبقى بعد أكثر من دورة نوم-يقظة واحدة على الأقل. ويمكن أن تشمل الذاكرة على المدى الطويل أيضاً تلك الأحداث التي تقع فيما بعد –مثل النوايا الموجود منذ فترة طويلة لعمل شيء في المستقبل. ويتم خلق وتخزين هذه الذكريات من خلال شبكة معقدة تصل ما بين الفص الجبهي، والفص الصدغي، ومنطقة عميقة في الدماغ تعرف باسم "المهاد الأمامي". ومن المؤكد أن لهذه الشبكة حدودها؛ فلا يخزن الدماغ الذكريات بأمانة، أو بطريقة تماثل الفيديو. وبدلاً من ذلك، تكون الذكريات هشة، وعرضة للتنقيح والفقدان، خاصة بسبب مرور الوقت وإقحام معلومات جديدة، فضلاً عن الإجهاد والتوتر والألم. وتفضي الضغوطات الشديدة من النوع الذي يُستخدم خلال التعذيب إلى إضعاف قدرة الفرد على تشفير الذكريات. كما أنها تعطل أيضاً عملية توطيد الذاكرة، وتُبلي قدرة المرء على استعادة الذكريات، حتى عن المعلومات البسيطة المباشرة المرتكزة على الواقع.


وهكذا، تقوم أساليب التعذيب التي تنطوي على الإجهاد -مثل عمليات الخنق المتكرر، والحرمات الطويل من النوم، والحد من السعرات الحرارية- بتقليل قدرة الدماغ على عمل الكثير من أي شيء. وبشكل خاص، فإن مجموعة "التعذيب الأبيض" التي كانت تستخدمها وكالة الاستخبارات المركزية سابقاً، تهاجم الوظائف النفسية والعصبية والجسدية للمعتقل. وكان يعتقد أن أساليب محاكاة الغرق، والحرمان الحسي، والتجويع وأوضاع الإجهاد، تدفع المعتقلين إلى الكشف عن محتويات ذاكراتهم طويلة الأمد بطريقة موثوقة وصادقة ومكررة. وبدلاً من ذلك، كانت هذه الأساليب تجبر الدماغ على الابتعاد عن المجموعة التكيفية الضيقة التي تعمل في داخله، ما يزيل أي أمل بالحصول على معلومات مفيدة.


كما تبين أن هذه الأساليب تسبب أيضاً نمواً في مناطق الدماغ المسؤولة عن معالجة الخوف والتهديدات نفس المناطق التي تخلق حالات مقيمة ومستدامة من اليقظة المفرطة وخفض ردود الفعل الإجفالية بقدر استثنائي، وهي أعراض تُرى أكثر ما يكون عند أولئك الذين يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة. كما تصبح مناطق الدماغ المسؤولة عن السيطرة على السلوك أقل استجابة أيضاً، مما يجعل من الأقل احتمالاً أن يتصرف الأسير بمنطق وبطريقة موثوقة.


يسبب الحرمان من النوم، بشكل خاص، انخفاضاً في الوظائف الحركية والإدراكية، فضلاً عن صعوبة استعادة الذكريات طويلة الأمد. وتقوم عمليات الخنق المتكرر وشبه الإغراق (المتصلة أكثر ما يكون بأشكال محاكاة الغرق) بإرسال إشارات تشبه تلك التي تتولد من خطر الحيوانات المفترسة إلى الدماغ، ويؤدي تقييد حركة الأوكسجين إلى توجيه النشاط بعيداً عن مناطق الدماغ المعنية بوظائف الإدراك والذاكرة، لصالح غرائز البقاء –والتي تحد كلها من قدرة المرء على تذكر أو تقديم المعلومات من ذاكرته بعيدة الأمد. وبعبارات أخرى، وبالنظر إلى ما نعرفه عن الدماغ والذاكرة والمزاج والإدراك، فإن من غير المفاجئ أن تكون المعلومات المستخلصة عن طريق التعذيب لا قيمة لها على الإطلاق في كثير من الأحيان.
فهم الاستجواب كما يجب


بما أن المحققين يريدون الحصول على مدخل إلى محتوى الذاكرة طويلة الأمد، فإنهم يحتاجون إلى تبني منهج مختلف. وهناك طيف واسع من أساليب الاستجواب التي يمكن أن تحقق نتائج ذات معنى. وفي القلب من هذه الأساليب، ثمة إقامة حوار مع الأسير. ولطالما كانت اللغة هي الأداة التي دخل بها المحققون إلى أدمغة، وذاكرة ودوافع أسراهم. وعن طريق جعل أنفسهم يبدون موثوقين وودودين، ومن خلال إظهار الاحترام، يستطيع المحققون الحصول على المعلومات بطريقة أكثر سهولة. وعندما يشعر المرء بأنه آمن، فإن طرق التفكير والذاكرة الطبيعية عنده تنفتح، ما يسمح للمحقق باستكشاف الذاكرة والمزاج والإدراك بطريقة أكثر فعالية.


تم اختبار هذه الأساليب في مجموعة واسعة من المواقف والأفراد؛ على سبيل المثال بين المشاركين المتطوعين، والمرضى النفسيين والعصبيين في بيئة الطب الشرعي، وبين أفراد القوات المسلحة الذين يمرون بمرحلة التدريب على القتال.


نتيجة لمثل هذه التجارب، أصبح العلماء اليوم أفضل تجهيزاً من أي وقت مضى لاستكشاف مزاج الآخرين وحالاتهم الإدراكية. ومن المؤكد أنه ما يزال هناك الكثير من العمل الذي يجب إنجازه، خاصة عندما يأتي الأمر إلى التحقيقات، لكننا نعرف فعلاً أن الصلات الإدراكية والعاطفية بين الأفراد، والتي تتخلق خلال المحادثات، هي التي تصنع كل الفرق. وفي الوقت الراهن، سيكون من الحكمة تأسيس علم جديد متعدد التخصصات للاستجوابات والمقابلات التي تجريها الشرطة والأجهزة الاستخبارية. وكما أوضح تقرير التعذيب المؤلم لمجلس الشيوخ، فإنه لم يتم إعطاء أولوية سياسية لفهم السلوك البشري في سياق استخباراتي، بل وتم إيلاء أهمية أقل من ذلك للتدريب المناسب لأفضل المرشحين لإجراء الاستجوابات والمقابلات. وسوف يكون من شأن إنشاء مديرية للأجهزة الاستخباراتية والشرطية التي تمنح الأولوية للأبحاث في هذا الحقل، وتطبيق العلوم الدماغية والسلوكية خلال الاستجوابات، أن تذهب شوطاً بعيداً في معالجة الممارسات السيئة وغير الأخلاقية في التحقيق. وسيكون وضع هذه "المجموعة عالية القيمة للتحقيق مع المعتقلين على أساس تشريعي آمن"، خطوة أولى مرحباً بها.


بموجب برنامج جديد، سوف يقدم المحققون تقاريرهم إلى أعلى مستويات واضعي السياسات والمسؤولين الحكوميين. وسوف يكون هؤلاء مسؤولين عن التبرؤ من الاستجوابات القسرية والتعذيب، باعتبارها ممارسات غير أخلاقية، وغير قانونية، ومناقضة لممارسات التحقيق الرشيدة. وبالإضافة إلى ذلك، سوف يكون مطلوباً من مثل هذه المديريات التخويل بوضع برامج تدريب وبحث قوية. ويجب أن تقترب تلك المعايير من مستوى التدريب المطلوب لإجراء المقابلات السريرية التي يجريها الأطباء والاختصاصيون النفسيون المحترفون، والتي تُعرّض المتدربين لطيف واسع من السلوكات، مشابهة لتلك التي تُمارس في المرافق الصحية والعيادات. كما يجب أن يعزز التدريب أيضاً أفضل الصفات الشخصية في كل مرشح، والتي تثبت كونها مفيدة في بيئات المقابلات النفسية، مثل الحساسية؛ والوعي الثقافي؛ والشعور بالراحة مع كل من التأملات الشخصية والتعبير عن الثقة بالنفس. وسوف يفضي مثل هذا التحول إلى تحسين آلية جمع المعلومات أكثر مما فعل العنف والإكراه في أي وقت من الأوقات.


سوف تتطلب أساليب التحقيق الجديدة إحداث تغييرات يجريها صناع السياسات والممارسون والعلماء، والتي ربما تعرض تحدياً يعتد به للأعراف الثقافية الحالية. ومع ذلك، سوف يساعد التصدي لهذه التحديات في القضاء على سوء معاملة السجناء والحصول على أدلة أفضل. وليست الأسئلة عن أفضل طريقة لإجراء الاستجوابات، ومن يجب أن يجريها، وما هو التدريب المطلوب، قضايا تتعلق بإنفاذ القانون فحسب؛ إنها قضية تتم مخاطبتها وحلها أفضل ما يكون عن طريق مجتمع العلوم السلوكية وعلم الدماغ. ويجب أن تكون النظرية والبيانات في هذه الحقول هي العوامل المحركة لصنع السياسات، أكثر من المفاهيم الأيديولوجية عن العدالة، والجوع المستتر للانتقام والعقاب. وينبغي أن يدرك جميع المعنيين أن الاستخبارات وجمع المعلومات البشرية تقعان في صلب إنفاذ القانون. وحتى تتم تأدية العمل بالشكل الصحيح والمناسب، على الممارسين أولاً فهم الأعمال الداخلية للعقل البشري.