الحدث- محاسن أًصرف
لا تبدو الحياة الاقتصادية في قطاع غزة على حالها منذ أحد عشر عامًا، تبدلت تفاصيلها من الرخاء إلى الكساد ومن الرفاهية إلى مُجرد توفير أساسيات العيش الكريم، وحدهم (الأساكفة) -أصحاب مهنة رتق الأحذية- من تنتعش جيوبهم قليلًا، خاصة في مواسم الأعياد والعودة إلى المدارس.
وأدت الأعباء الاقتصادية التي كبلت المواطن الغزي على مدار سنوات الحصار، بالغالبية منهم خاصة من يُعانون الفقر المدقع إلى محاولة تدبير أمور حياتهم بما لديهم من إمكانيات فالأحذية يرتقونها ليزيد معدل استهلاكها، بينما الألبسة فإما يشترونها من "سوق البالة" ببضعة شواكل زهيدة وإما يعمدون إلى رتقها تارًة أو إصلاح ما هو أكبر للأصغر وهكذا لتجنب إنفاق أموال لا يجدونها "بالساهل" وفق تعبيرهم.
المواطن عبد السلام- رفض ذكر اسم عائلته منعًا للحرج- أخبرنا وقد اصطف في طابور مع عشرات المواطنين ينتظر دوره عند أحد الأساكفة بمدينة خان يونس جنوب القطاع، أنّه جاء بخمسة أزواج من الأحذية واحدة له والبقية لأبنائه الأربعة بغية رتقها وإصلاحها لتكون جيدة للاستخدام مع دخول العام الدراسي الجديد، وأضاف وهو يُقلبها يُمنة ويسرة: مازالت صالحة وأعطابها بسيطة" آملًا أن تستمر على حالها الجديد بعد الرتق على مدار الفصل الدراسي الأول.
و"عبد السلام" هو موظف ناله الخصم الذي عاقب به الرئيس محمود عباس موظفيه في غزة منذ أبريل الماضي، يؤكد أن ما يتبقى من راتبه بعد الخصم وخصم القرض الذي سحبه لشراء منزله لا يتجاوز الـ 950 شيكل لا تفي بأبسط احتياجاته، يتمنى الرجل أن يتراجع الرئيس عن قراره العقابي وأن يعود هو أيضًا على رأس عمله.
وبحسب عدد من الأساكفة التقت بهم "الحدث" فإن قائمة زبائنهم طالت في الآونة الأخيرة فئة الموظفين بعد أن كانت مقتصرة على الفقراء، ما يُشير – وفق تعبيرهم- إلى سوء الواقع الاقتصادي للجميع وعجزهم عن توفير أساسيات العيش الكريم لأسرهم.
الظروف الاقتصادية جعلت المهنة مقبولة
وأمام الموظف "عبد السلام، كان الاسكافي "أبو محمد حمدان" في نهاية عقده الرابع يجلس على كرسي من القش ويتحلق حول ماكينة رتق الأحذية خاصته، تارًة يُطلق صرخة على ابنه الذي جاوز الـ 15 ربيعًا أن يأتيه بالأحذية التي يُريد إصلاحها وتارةً أُخرى يطلب إليه لضم الخيط في الإبرة ليقوم بعمله، يُخبرنا الرجل أنّه يعمل كـ"اسكافي" منذ كان في العشرينيات من عمره، لافتًا أن المهنة أصبحت مقبولة أكثر غي الآونة الأخيرة، وفيما يتعلق بالأسباب يؤكد "حمدان" أن سوء الأوضاع الاقتصادية لدى المواطنين في قطاع غزة على مدار سنوات الحصار بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وأخيرًا إجراءات قطع الرواتب والتقاعد المبكر أثمرت إنعاش لمهنة الاسكافي، وأضاف: أيضًا لا أريد أن أنسى التراجع الملحوظ في صناعة الأحذية الجلدية الآتية من الضفة المحتلة وغمر الأسواق بالصناعات الصينية الرديئة، هذا أنعش مهنة رتق الأحذية.
ورغم أن "حمدان" أكثر المستفيدين من سوء الأوضاع الاقتصادية لإنعاش مهنته واستمرار عمله إلا أنّه يشكو من ضعف دخله، يقول الرجل لـ "الحدث": "إن ما نجنيه مقابل رتق قطعة حذاء واحدة لا تتجاوز الـ 2 شيكل" لافتًا أن المبلغ يبدو زهيدًا في ظل متطلبات المهنة من خيوط وكهرباء وعمليات صيانة لماكينات تصليح الأحذية.
انتعاش يُقابله دخل بسيط
ولا يختلف عنه عبد الله أبو الجديان 38 عامًا، كان يستظل بسور قلعة برقوق وسط مدينة خان يونس جنوب القطاع، وبين يديه فردة حذاء بالية لا تكاد تعبر بين أسنان الماكنة لإصلاحها، يقول الرجل بينما مسح حبات عرقه المتدلية على جبهته السمراء،: "إن الأوضاع الاقتصادية وخصم رواتب الموظفين أثرت بالإيجاب على مهنتنا، أصبح مكاني لا يخلو من الزبائن"، ما دفع "الحدث" لسؤاله عن قيمة ما يجنيه يوميًا، فضحك ساخرًا وقال: "أجني ما يكفي لأُطعم أبنائي"، ويُعيل الرجل 6 أفراد بينهم أربعة في المدرسة ويُحاول قدر المستطاع توفير بعض النقود ليُوفر لهم ثمن الزي المدرسي، بينما الأحذية فسيعمد إلى رتقها أيضًا.
الرجل لا يجني إلا 20-30 شيكل يوميًا، يؤكد أنها لا تفي باحتياجات أسرته وأبنائه جميعهم، والسبب في تقديره ضعف أجرة الرتق فهي لا تتعدى الـ 5 شيكل وفقًا لحالة الحذاء أو الحقيبة المراد رتقها وإصلاحها، ويُعول "أبو الجديان" كثيرًا على موسم المدارس وعيد الأضحى مؤكدًا أن العمل فيه أفضل كثيرًا من الأيام العادية- حسب قوله-
الاسكافي أوفر حظًا
من جانبه اعتبر د. معين رجب أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر أن الاسكافي أوفر حظًا قليلًا من أصحاب محلات بيع الأحذية في هذه الأوقات، لافتًا أن غالبية تُجار الأحذية تراجعوا في الآونة الأخيرة عن استيراد بضائع إلى السوق المحلي نظرًا لحالة الكساد التي سببتها الأوضاع الاقتصادية في غزة.
وبحسب "رجب" فإن ارتفاع معدلات الفقر التي تجاوزت 65%، والبطالة التي وصلت إلى أكثر من 40% كانت سببًا في إنعاش مهنة الاسكافي إضافًة إلى تراجع دخل قرابة 58 ألفًا من الموظفين بنسبة تتراوح بين 30-50% نتيجة إجراءات السلطة العقابية على غزة وسكانها والحكومة التي تُدير شئونهم، وقال: " إن سوء الأوضاع الاقتصادية وانخفاض القدرة الشرائية تُنعش مهن بسيطة يرى فيها السكان تخفيفًا من واقع أزمتهم ومعاناتهم".