الحدث - محمد بدر
مخاطبة الشعوب المستعمرة ليست بالأمر الجديد في التاريخ السياسي للعالم، ميكافيلي الأب الروحي الفكري لشكل الاستعمار الإسرائيلي أشار إلى ملك إيطاليا في كتابه، ضمن توصياته عن طرق التعامل بعد عملية الاستعمار، بأنه يتوجب على المستعمر أن يحاول احتواء السكان الأصليين من خلال الخطاب، وأن يشعرهم أنهم جزء من دولة قوية تستطيع مساعدتهم، وفي الوقت نفسه دعا لعدم إدماجهم في الجيش وأقصى ما يمكن أن يفعلوه أن يكونوا مرتزقة دون أن يشعروا بذلك، ليس غريبًا هذا الاستدعاء لميكافيلي في هذا التحليل، تفكيك فلسفة المستوطنة الإسرائيلية يصل بنا لنتيجة أنها فلسفة ميكافيلي في البناء الاستعماري المادي، وحتى تفكيك بنية خطاب الحركة الصهيونية وعملية تكوين الخطاب والاستعارة الدينية إلى جانب الاستدعاء الحداثي للأفكار هي ابتسمولوجية سياسية ميكافيلية بالأساس.
ميكافيلي أحد مفكري مرحلة النهضة في أوروبا مات جسده وظلت روحه في كثير من السلوك السياسي للأنظمة الحاكمة وكذلك لقوى الاستعمار.
في هذه الورقة نحاول تحليل ظاهرة الناطقين الإسرائيليين باللغة العربية وتواجدهم في الفضاء السايبري وأهدافهم والآثار المترتبة على ذلك.
في البداية، لا بد من الحديث عن أنَّ الحركة الصهيونية ما قبل الاحتلال كان خطابها السياسي والفكري موجهًا للشعوب الغربية ولليهود، السبب أنَّ الصهيونية كانت تحاول أن تنفي عن الشعب الفلسطيني صفة الشعب، وأي خطاب مباشر له يعني اعتراف أنه شعب، وكان خطاب الحركة الصهيونية ما قبل الاحتلال يرتكز على أساسين متناقضين أحيانًا:
كانت الحركة الصهيونية تحاول استنهاض الشتات اليهودي من خلال استنطاق الدين اليهودي والتاريخ اليهودي سياسيًّا، وأيضًا من خلال استفزاز عناصر الهالة الروحية لدى اليهودي في الخارج.
ركّزت على الخطاب الحداثي في ترويج أفكارها لدى الغرب، وحاولت ترسيخ صورة اليهودي الحداثي المندمج والفعّال في الحركة العالمية "لتطوير العالم".
ولسنا في صدد نقاش الارتباك الهوياتي الذي عكسته أسس الخطاب هذه على هوية المجتمع والدولة فيما بعد في "إسرائيل"، ولكننا نستطيع أن نقول: إنَّ هذه الأسس نجحت في النهاية في تحقيق الأهداف الآنية للحركة الصهيونية والتي تتمثل في الاستعمار من خلال الاستيطان.
بعد احتلال العام 1967 صدرت أول جريدة إسرائيلية ناطقة باللغة العربية، جريدة الأنباء والتي صدرت في القدس عام 1968 تمثّل مرحلة أخرى في الخطاب الصهيوني، وهذه المرة الموجّه للداخل وللشعب المحتل، في هذه الفترة كانت الصحافة الفلسطينية مستهدفة والإنتاج الإعلامي مراقب ومقموع، وتحت بنود قوانين الطوارئ وبعض القوانين العسكرية، كانت الصحافة الفلسطينية محل استهداف إسرائيلي شامل. جريدة الأنباء لم تكن واجهة للخطاب الإسرائيلي فقط، كانت عمليًّا قناة تفاوض مبكر بين الواقع الجديد (الاستعمار) وبين الوحدات المعرفية الموجودة في الإطار المعرفي للفلسطيني، وحاولت الجريدة من خلال مضامينها تحسين صورة الإسرائيلي في وعي الفلسطيني والقيام بعملية قطع للذاكرة وبناء التاريخ المعرفي عن الاحتلال من جديد أو إعادة تشكيله بصورة أقل توترًا.
فكرة أن يخاطبك المحتل بلغتك لا تتلخص أهدافها في مبدأ الوصول إليك، ما أبعد هو أن يشعرك بقوته المعرفية وتفوقه وقدرته على فهم الآخر، وفهم لغته وفهم بيئته، الهدف هو أن يخلق شعورًا من الرهبة لدى المتلقّي تولّد لديه نوعًا من الإحباط، وكذلك العجز على مواكبة التقدم لدى الآخرين، في مراكز التحقيق أحيانًا يلجأ المحققون الإسرائيليون إلى أسلوب المبارزة الشعرية، أو بالأمثال الشعبية الفلسطينية، الهدف كما أشرت سابقًا توليد نوع من الإحباط لدى المتلقي وأيضًا تعزيز الرهبة المعلوماتية داخل المتلقي.
في النهاية، فشلت جريدة الأنباء الإسرائيلية وتوقفت عن الصدور في أواسط الثمانينيات، السبب أنَّ التنشئة الوطنية كانت تتم من خلال المؤسسات الاجتماعية، ولعبت المؤسسة الاجتماعية دور "قائد الرأي"، ويمكن فهم ذلك منهجيًّا من خلال ما يعرف بسريان المعلومات على مرحلتين. السبب الآخر لفشلها الدور الذي لعبته المؤسسة الحزبية في التنشئة الوطنية المجتمعية، والسبب الثالث هو أنَّ الاحتلال وجرائمه وما أحدثت على مستوى العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وكذلك على المستوى النفسي، وأيضًا استمرارية فعله على الأرض (عملية الاحتلال والتطهير العرقي) لم يكن ببعيد زمنيًّا، ولم تكن المشاعر تستوعب الاحتلال لا واقعًا، ولا خطابًا. وبالإضافة لكلّ هذه الأسباب فإنّ التيار الثوري في آواخر الستينيات وأوائل السبعينيات كان يسيطر على الوجدان الفلسطيني، بخاصة بعد معركة الكرامة.
ما بعد أوسلو لعبت فلسفة السلطة أثرًا كبيرًا في تقبّل الاحتلال نسبيًّا، السلطة جاءت بمؤسسات بُنيت على أسس أمنية وسياسية وثقافية تجعل من إسرائيل كيانًا من الممكن التفاهم معه، والوصول معه لنقاط التقاء وحلول، التنسيق الأمني واللقاءات بين الفلسطينيين والإسرائيليين كسر حاجزًا نفسيًّا كبيرًا تجاه الاحتلال لدى فئة كبيرة من الشعب الفلسطيني. الأخطر في مشروع السلطة هو تغير النظرة لإسرائيل.
إعلاميًّا لعبت الجزيرة القطرية دورًا كبيرًا في كسر المحظور في الفضاء الإعلامي العربي، ومكّنت الإسرائيلي أن يخرج ببزته العسكرية مخاطبًا العرب ومدافعًا عن وجهة نظره، وكما يقول أحد الكتاب: دخل بهذا التمكين؛ العسكري الإسرائيلي لغرف نومنا من خلال الشاشة، وكما لاحظنا فإنّ الاحتلال في الزمن الورقي حاول أن يتسلل للفلسطينيين والعرب من خلال الجريدة، وفي زمن الإعلام الفضائي وجد لنفسه مكانًا في قناة فضائية عربية كانت محل اهتمام العرب ككل.
في الزمن الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي فتح الاحتلال لنفسه نافذة في المجال العام العربي، مستفيدًا من سلطة ظهوره على الإعلام العربي التقليدي، ومن هنا نبدأ بالتخصص في فهم الظاهرة بعد استعراض سياقها التاريخي والفلسفي.
الجدل القائم اليوم في عالم الإعلام هو ما إذا كان العالم الافتراضي (الشبكات الاجتماعية) يؤثّر في تشكيل الواقع وعيًا وسلوكًا أم لا، إسرائيل لن تنتظر انتهاء الجدل النظري لتقرر إذا ما كان العالم الافتراضي مفيدًا أم لا، فهي تتعامل معنا في هذه الحالة كمجتمع بحث أو كمجتمع خاضع التجربة.
أنماط السلوك الإسرائيلي الموجه للعرب على شبكات التواصل الاجتماعي وأهدافه:
كيف يمكن مواجهة هذه الظاهرة؟
في النهاية، فإنَّ أحد أهم أهداف الحركة الصهيونية المعلنة، هو أن يتحول الوجود الإسرائيلي إلى وجود طبيعي، وهو ما عبّر عنه المفكر الصهيوني زئيف جابوتنسكي في نظريته الشهيرة "الجدار الحديدي"، وفي هذه الحالة كما يرى جوبتنسكي تستطيع إسرائيل أن تطمئن على حاضرها ومستقبلها.
في هذه النظرية اعترف جوبتنسكي بأنَّ الشعب الفلسطيني يملك ثقافة وطنية، وأنَّ هذه الثقافة تقف عائقًا أمام استقرار الظاهرة الاستعمارية الإسرائيلية، وأنَّ الحل يكمن في تطويع الوعي من خلال الحديد تارة ومن خلال الخطاب تارة ... في النهاية، إنَّ مَن يمنحك الموت لا يمنحك الحياة.