الخميس  25 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

العشاء الأخير

للشاعر: محمد الأمين سعيدي/الجزائر

2014-11-22 01:06:40 AM
العشاء الأخير
صورة ارشيفية

 1.

في دهاليز هذا الجسد المظلِم يقيمُ الموتُ
عشاءه الأخيرَ
تقاسمه المأدبة سبعة قططٍ سوداءَ
رائحة الشِّواء البشرية توقظ فيها وحوشَ الشَّراهةِ
فتجهِشُ بمواءٍ أسطوريٍّ
يستدْعي من جيوب الآخرةِ السكاكين الجائعةَ
و...الملحَ.
2.
"سيكونُ عشاءً فاخرا على شرف جثَّتي"
همسَ الميْتُ الممدَّدُ على طاولةِ العدمِ
حين رأى أنيابَ القطط الفضِّيَّةِ كأقمارٍ
تضيءُ شعرَها الأسودَ الثقيلَ كليْلِ النهايةِ 
استفاقتْ في دواخلهِ القصيَّةِ نارُ المخيِّلة
فشاهد نفسَه في كازينو يربك بموسيقاه سكينة البحر
وهو يتعلَّقُ بخاصرةِ الحبيبةِ 
فيغيظ الجاذبيَّةَ بطيرانٍ لا تعرفه السماواتُ بعد..
قبلَ أنْ تأخذَه سفينةُ الإغماءةِ إلى جزيرة الغيبِ البعيدةِ
صرخَ:
"يا له من حلمٍ خبيث يسلَحُ على طقوسِكَ العاهرةِ".
3.
الموتُ"الأنيقُ"الذي توسَّط المائدةَ المصنوعةَ من عظامِ الراحلين
رغم أنوفهِمْ إلى ما يشبه الغرقَ منذ ولادَةِ 
هذا العالَم الشقيِّ
(عن أناقتهِ قالَ خرفُ الرِّوايةِ:
وجهه مليءٌ بالبثُورِ المتوثِّبةِ
أنفه متهدِّلٌ مثل خرطومٍ أو ثديِ عجوزٍ تحرثه التجاعيدُ
شعرُه الكثيفُ العامرُ بالأشواكِ يصطادُ الطُّيورَ الصغيرةَ
والحشراتِ
وروى بعضهم:
في رأسِه سبعة أفواهٍ لا تشبعُ
فيها سبعة أنيابٍ تقطعُ الحديد والحجارة 
في كل فمٍ مجرى يسوقُ الدَّمَ إلى العروق العطشانة.)
الموتُ "الأنيقُ" الذي توسّطَ جوعَ المائدةِ
-وقالَ خرف الرواية عنه كلَّ هذا القرف-
ارتدى عباءةَ الشَّبهِ بقدِّيسٍ تجارتُه الطيبةُ الزائفةُ
ثمَّ وقف يجمِّعُ من كتابِ مذابحهِ الإيحاءَ
ليقولَ بعدَ سبعِ دقائقَ أنزلتِ المللَ على رؤوس القطط السَّبعة حتى ماءَ الأوَّلُ
وضرطَ الثاني وقضى السابعُ حاجته في يدِ الميْتِ المفتوحةِ
4.
قالتِ العظامُ التي تسند وزن المائدة:
خطبَ طويلاً حتى عاودني ألمُ المفاصلِ
بل إنَّ الموتَ "الأنيق" امتطى حصان الثرثرةِ وراحَ يجولُ على ظهرِه سبعة أيَّامٍ 
لكنَّ أهمَّ ما قالهُ كاشِفًا عن ساق أنانيَّتهِ
منتشيًّا بنبيذ الانتصارِ على رجلٍ بلا سِلاحٍ:
"ليسَ افتتاني بسلبِ هذا الجسد البائس لأعيده إلى براثنِ أمِّه الأرض حتى تحكي له في كلِّ ليلةٍ ما فاته من مسلسلِ الفناء، ولا فرحي بموقد القبْر يحضِّرُه أكْلةً لذيذة لجشعِ الدِّيدانِ، ولا بالوحدةِ تلتهمُ قلبَه الرهيفَ، على مهلٍ، وإلى الأبدِ، ولا بالرثائيات التي تشيّعُه إلى أبوابِ الآخرة قافلةً إلى صخبِ الحياة مرسلةً ذكراه إلى مزبلة النِّسيان...
وإنَّما افتتاني
وفرحي
وسروري الأكبر
بتاج الحرمان أضعه على رأس رغباته 
مثلاً:
لنْ يتسلَّقَ هضبةَ النَّهدِ الأسمرِ متعثِّرًا بأعشابِها التي تنقل إليه كهرباء الغوايةِ
لنْ يشربَ من غواربِها مياهَ الملذَّاتِ العذبةِ
لنْ يتسلَّقَ خصرَ الحبيبةِ مفجِّرا عبر أدْغال مفاتنه أنهارَ المحبَّةِ تسقي
أشجارَ مباهجِه ما ينضج التُّفاحَ والمعصيةَ..
لن يقطفَ
-كما كان يفعلُ-
القبلاتِ الطازجة صباح مساء...إلخ".
5.
قبلَ أنْ يبدأ العشاءُ
تكلَّم الميْتُ بصوتٍ مرتفعٍ هذه المرّة 
بعدَ أنْ أرجعتْ إليه الخطبة المملَّة بعضَ الوعيِ القديمِ
مما أفزع الموتَ الذي يخفي جبالا من الجُبْنِ:
"لنْ أموتَ
فقد سقيْتُ شجرةَ السلالةِ بمائي الدَّافقِ على امتدادِ ليالٍ طويلةٍ ألهبْتُ فيها حدائق الجسد، ملتحمًا بامرأتي تخدِش بأظافرِها جدار الشهواتِ، لتحفرَ فجوةً يعبر منها أولادٌ قردةٌ يقفزون في كلِّ مكان، ويتعلَّقون بكلِّ شيءٍ. على مرايا أجْبُنهمْ صورتي وصوتي واسمي.
لنْ أموتَ
ما دامتْ حياةٌ مني لا تموت
قد أصبح عشبًا تأكلُه الأغنامُ صباحًا
ومساءً تحملني ريح البقاءِ إلى مطلقٍ لا تراه عيونُك الكثيرةُ الحولاء."
6.
التحفَ بالابتسامةِ
ثمَّ التفتَ إلى القطط السوداء مجهشًا بخبثٍ:
"آخرتُها نومةٌ في قبرٍ تبول عليهِ كلاب اللَّيْلِ."
ثم:
نـــــــــــــــــــــــــامَ.